العلاج بالكتابة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

العلاج بالكتابة

كيف لهؤلاء البشر أن يعرفوا كل ما نعانيه و هم لم يعرفوا أو يسمعوا إلا ما نود البوح به - كان الله في عون الإطباء النفسيين

  نشر في 28 يونيو 2018 .


لا أعرف من أين أبدأ و ماذا أكتب و كيف أترجم ما يجول في عقلي من أفكار و أوهام و أطلال و أشخاص و مواقف و خيبات و أخرى نسيتها ، لقد وعدت صديقتي التي نصحتني باتخاذ الكتابة علاجاً لما أسمته "كآبة حادة" أعاني منها بعد أن شخصت ما أمر به من ظروف عبر محادثةٍ جرت بيننا عبر الوتساب ، كيف لهؤلاء البشر أن يعرفوا كل ما نعانيه و هم لم يعرفوا أو يسمعوا إلا ما نود البوح به - كان الله في عون الإطباء النفسيين ، لعلها عرفت ما بي لكونها كاتبة و لها باعٌ في هذه المشاعر المختلطة أو مرت بهكذا جنون لذا ألفته لمجرد إجابتي على أسئلتها .

لقد أرسلتُ لها قطعة تتكون من عدة أسطر أو سطور كيفما شئتم كنت قد كتبتها بحرقة و ألم و لن أكتبها في هذه الصفحات لأنها أولاً مؤلمةٌ جداً و ثانياً قد حفظتها تماماً لكثرة قراءتي لها ، و لأن هذا الكشكول الذي أخط به هذه الطلاسم و الكلمات لن يقرأه سواي - كما وعدت صديقتي الكاتبة التي جعلتني أعدها أن أكتب لنفسي فقط لا لأحد . أعتقد أن هناك من سيقرأ ما أخطه هنا لكن دون علمي لأن هذا المسكين و أعني كشكولي سيكون يتيماً بين عشرات الكتب التي تزين الرفوف في قبو منزل أخي - سأخبركم لاحقاً عن منزل أخي - لذا يسهل اكتشافه و فتحه و قراءة ما فيه من قبل المتطفلين الفضوليين في هذا الكوكب التعيس .

الساعة الآن قد عبرت الثانية و النصف فجراً بتوقيت مدينتي عجمان ، قد يسألني أحدهم لم أكتب في هذا الوقت من الفجر ؟ أكتب لأن الألم لا يعرف وقتاً و الجرح قد خرج من نطاق الزمن و الساعة البيولوجية في جسدي قد أصيبت بفايروسٍ خطير فأصبح نهاري ليلاً و بات صبحي مساءً ، إن هذه الأسباب قد يكتبها كاتبٌ متحذلق أو أديبٌ مغمور أما أنا فلن أخادع نفسي أبداً و سأقول الحقيقة المرة ، لقد قالت لي صديقتي و هي مهددةً إياي : "إذا مرت هذه الليلة و لم تكتب خمسة عشر صفحة فسأثرم مئة بصلة على رأسك"! أي سيتحول صماخي إلى قدرٍ كبير للبصل بعد أن كان منخلاً للأفكار . إنها جُمل التهديد و الوعيد العراقية الشهيرة المستخلصة من البيئة المحيطة بهم ، أينتج العراق البصل ؟ لا أعلم و لا أعتقد بذلك لأن العراق بعد عام 2003 بات يستورد كل شيء من الخارج من الحكومة حتى الشعب !

إنهم ينظرون إلي و يتابعون حركة قلمي ، متعطشون لسماع ما يكتب عنهم ، يراقبون عن كثب و نظراتهم تفقدني الإنتباه و التركيز ، إن الحديث عنهم يحتاج إلى مصادر موثوقة و كتب و زياراتٍ سريعة إلى العم "گوگل" ، من أين أحضر كل ذلك و أنا أجلس في القبو منعزلاً عن العالم و لا يصل إلي إلا بالصدفة أخي بحثاً عن إحدى كتب الأدب الروسي الشغوف بها ، إنه متيمٌ بتولستوي و ديستويفسكي و نيقولاي گوگول و بوشكين و تورجنيف و غيرهم من رواد الأدب الروسي ، لقد تأثر جداً بأفكارهم و هامَ بهذا النوع من الأعمال الأدبية أقصد آنا كارنينا و المفتش العام و الفقراء و الجريمة و العقاب و المعطف و الأنف و غيرها .

لا زالوا يدققون على قلمي و يتابعون الأحرف و الكلمات و يريدون معرفة موعد الحديث عنهم و ما سأقول فيهم ، حسناً أصدقائي سأذكر أسماءكم لأخلدكم في كشكولي العظيم هذا .

حسناً أنا أميل إلى تينك الأنثيين لذا سأبدأ بهما ، الأولى هي "مارلين مونرو" التي تنيخ أمامي على الكرسي المقابل لأنها نُقشت على المخدة التي يستند إليها كل من جلس على هذا الكرسي ، إنها فاتنة حقاً بشعرها الذهبي الذي يشبه شعاع الشمس - لكن شعرها مموج - لذا جاز لي أن أشبهه بالكثبان الرملية المتحركة في ربوع صحاري شبه جزيرة العرب و يلف عنقها عقدٌ فريد يجمع بين الفضة و الذهب الخالص ، إنني أخشى على رقبتها من قطاع الطرق وسط هذه الرمضاء و الرمال المتحركة - يا إلهي لقد بدأت أهذي - سأعود لما بدأت به ، نعم هي جميلةٌ حقاً أقصد ابنة مونرو و كأن الفنان العراقي الراحل يصفها عندما قال : "خدچ الگيمر و أنا أتريگ منه" فعلاً خدها قشطة بيضاء لكنني صائمٌ عن تذوقها لأن المسكينة قد رحلت إلى دار حقها و لم يبق منها سوى العظام أو ربما تحولت إلى سمادٍ عضوي . أما الأنثى الأخرى فهي من مجسمٍ لشخصين هما شهرزاد و شهريار ، لقد أحضرته معي عند عودتي من بغداد ، لقد زرت النصب الحقيقي الذي صممه الراحل محمد غني حكمت في سبعينيات القرن المنصرم .

لقد كان النصب قريباً من الفندق الذي كنت قد نزلت فيه ، فقد قطنت في فندق بغداد بشارع السعدون لأن مكانه حيوي و قريبٌ من ساحة التحرير من جهة والطريق المؤدية إلى شارع الرشيد من جهةٍ أخرى ، كنت أعبر إلى شهرزاد مشياً و وقفت طويلاً في هذا الشارع المطل على نهر دجلة إنه شارع أبو نؤاس الجميل الخالد في الذاكرة الجمعية للعراقيين حيث كان نسيم دجلة المترع بشذى السمك المسقوف يلهم كل الكتاب و الشعراء و الأدباء و الفنانين العراقيين الذين مروا بهذا الشارع فكتبوا و ألفوا الكثير عن هذا المكان ، فلا أظن أن أنوار عبدالوهاب في رائعتها " على شواطي دجلة " كانت بعيدة عن هذا المكان .

لو تسلقنا قليلاً إلى أعلى لوجدنا أنني قد استخدمت صيغة الماضي في وصف شارع أبو نؤاس ، نعم لا زال نسيم دجلة موجوداً أما رائحة السمك المسقوف فقد اختفت و كأن الحياة كانت مختزلةً بهذا المكان في هذه الرائحة الزكية ! سأكون منصفاً قليلاً لو قلت أن الرائحة موجودة فقط في بعض المطاعم الموزعة بين جنبات هذا الشارع و ما أن تخرج من هذه المطاعم ستختنق بدخان عوادم السيارات و ضجيج إزدحامات السير الذي يقف خلفه سائقون لا يلتزمون بقوانين المرور و السير لأن قانون الشارع هناك أصبح البقاء فيه للأقوى أو لموكب المسؤول الحكومي !

إن كل ذلك القبح - ها قد أذن أذان الفجر - لا يخفي جمال شهرزاد الشاخصة أمام ملكها السعيد ذو الرأي الرشيد فهي أيضاً قد نالت نصيبها من الخلود في سفر الذاكرة العراقية و العالمية بسبب ذكائها و حنكتها مع الملك شهريار . إن المجسم على الرف يشبه النصب في بغداد فالملك شهريار جالسٌ و شهرزاد تقف أمامه تحكي له قصص ألف ليلة و ليلة و لكن يا ترى هل أخبرته في الليلة بعد الألف ما سيحل ببغداد ؟ أما آن لها أن تجلس بجانب ملكها لأن القصص بات يشيب لها الرضيع !

لا أخفيكم أنني عندما عدت إلى وطني أخرجت المجسم من العلبة فوجدت رسالة في يد شهرزاد قد كُتِب فيها "دمت إماراقياً" إنه مصطلحٌ أطلقه علي العراقيون اعتزازاً بي و يعني انتمائي لدولة الإمارات و العراق ، لقد فرحت بها جداً ، و غمرني السرور لمكانة البلدين في قلبي فالأولى هي أمي و الثانية هي معشوقتي .

إن بجانب مجسم شهرزاد و شهريار على الرف هنالك مجسمٌ آخر لا يقل أهميةً عنه ، إنه أنموذجٌ عن تمثال الشاعر أبي الطيب المتنبي الموجود في بغداد في الشارع الذي سمي باسمه ، و يعد هذا الشارع رئة العراق الثقافية لما يحتويه من مكتباتٍ ودورٍ للنشر و الوراقين و الباعة المتجولين في أيام الأسبوع العادية أما في يوم الجمعة فيتحول هذا الشارع إلى كرنفالٍ ثقافي لا يضاهيه أيُ مكانٍ في العالم فترى الفعاليات مستمرةً منذ طلوع الشمس و حتى الثانية بعد الظهر . أقصد بالفعاليات مجموعاتٍ متفرقة من البشر يمارسون هواياتهم ، فالكتاب يناقشون عناوين الكتب و الشعراء يلقون قصائدهم أو ما يحفظون من قصائد و المطربون يحولون آلامهم و آمالهم إلى أغانٍ تطرب لها الآذان و الرسامون يرسمون مستقبل بلدهم بعيداً عن الإملاءات الخارجية و الإرادات الإقليمية و التشكيليون ينحتون طريق الأمان و الخلاص لبلدهم ، إنه حقاً مزيجٌ رائع من البشر اجتمعوا في هذا الشارع الذي كان قبل انقلاب 1958 في العراق الذي راح ضحيته أفراد العائلة المالكة يضم معظم المباني الحكومية المهمة منذ الإحتلال العثماني حتى العهد الملكي و لازالت بعض الآثار شاخصةً بالقرب منه مثل قصر القشلة و هو المعسكر الشتوي إبان الإحتلال العثماني و ساعة القشلة التي بنيت بطابوق سور بغداد بعد هدمه في زمن الوالي مدحت باشا لإيقاظ الجنود ، و قد تم تنصيب الملك فيصل الأول بن الشريف حسين حاكماً للعراق في القشلة و الذي أسس بدوره خمس وزاراتٍ في ذات المكان و هي الداخلية و العدل و المواصلات و الأشغال و المعارف و كانت كذلك حتى نهاية العهد الملكي .

لقد مر هذا الشارع بتحولاتٍ كثيرة فمنذ نشأته في العهد العباسي عرف باسم "سوق الوراقين" مروراً بتسميته "بالأكمكخانة" في العهد العثماني لكثرة المخابز فيه و انتهاء بتسميته بشارع المتنبي في زمن الملك غازي و استمر بهذه التسمية إلى اليوم .

يقع في منتصف شارع المتنبي واحدٌ من أقدم و أعرق مقاهي بغداد و هو "مقهى الشابندر" الذي قد زرته مرتين ، لقد كان مقهى الشابندر فيما مضى مطبعةً تعمل ضد الوجود الإنجليزي في العراق ثم تحولت إلى مقهى تعود ملكيته اليوم إلى رجلٍ فاضل اسمه الحاج محمد الخشالي الذي حافظ على طرازه البغدادي رغم التفجير الذي طاله عام 2007 على يد غربان الشر و راح ضحيته العشرات من ضمنهم بعض أبناء الحاج الخشالي إلا أن مقهى الشابندر ظل شامخاً و يحرس الثقافة العراقية إلى اليوم و قبلةً لكل من يعشق التمقه في بغداد .

في نهاية شارع المتنبي يقع التمثال المطل على نهر دجلة و قد كتبت عليه الأبيات المشهورة " أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ، و أسمعت كلماتي من به صممُ" وقد صمم هذا التمثال النحات العراقي الراحل محمد غني حكمت عام 1977 . يمكنني القول أن المجسم يشبه التمثال و لكن تنقصه أصابع يد المتنبي اليمنى التي راحت ضحية الشحن السيء لبضاعتي أثناء رحلة السفر .

قبل أن أكمل حديثي عن الشخص التالي الذي كان ينظر إلي و أنا أكتب هذه الترهات سأعود لعد الصفحات لعلي وصلت إلى العدد المطلوب لليوم قبل أن يُثرم البصل على رأسي - دقيقة - آهٍ لم أكمل العدد المطلوب بعد ، هيا يا صديقتي أثرمي ما شئت من البصل على رأسي لقد غلبني النعاس و أنت من ستسيل دموعه بسبب قص البصل أما رأسي الذي تحمل آلاف الخيبات لن تصعب عليه مئة بصلةٍ مثرومة !



  • 2

   نشر في 28 يونيو 2018 .

التعليقات

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا