المخادع الذي انجبته الكتب!؟ | يوسف الدرقاوي
المخادع الذي انجبته الكتب!؟ | يوسف الدرقاوي
نشر في 31 يوليوز 2024 .
تواجه مجتمعاتنا العديد من التحديات على الأصعدة السياسية والاجتماعية والأخلاقية. وعلى الرغم من أن الهدف هنا ليس سرد هذه القضايا أو محاولة حلها، إلا أننا نسعى لإثارة التفكير والنقاش حولها. من بين هذه القضايا التي تؤرق المجتمعات الإنسانية في مختلف الأزمان والأماكن، هي قضية المثقفين. يرى البعض أن الصراع بين السلطة والمثقفين والعامة هو أمر لا مفر منه في أي مجتمع. إذن، من هو المثقف؟ وخصوصاً، من هو المثقف الشرقي؟ ما هي صفاته؟ وما هي العوامل التي تجعله مثقفاً؟ ولماذا تحول المثقف الشرقي مؤخراً -بعد ثورات الربيع العربي- إلى مخادع يستخدم حججاً لا يؤمن بها، مما قلل من فرصته في إحداث أي تغيير؟
في الكثير من الأدبيات والدراسات التي تتناول مفهوم المثقف، نجد خلطاً واضحاً بين النظر إلى المثقف كما ينبغي أن يكون، وبين واقعه الحالي. هذا الخلط المفاهيمي يؤدي بالطبع إلى العديد من التعريفات والتصورات المتباينة. فالبعض يربط المثقف بالثقافة، بينما يربطه آخرون بالتعليم، معتبرين أن المثقف هو من تلقى قدراً من التعليم. وهناك من يربطه بالأفكار، فيصبح المثقف هو القادر على إنتاج أفكار جديدة أو التعامل مع الأفكار القديمة التي أنتجها الفلاسفة والأدباء والمؤرخون وغيرهم.
ونظراً لاختلاف الرؤية تجاه طبقة المثقفين أو "الانتلجنسيا"، نشأ جدل كبير حول التعريف الأمثل للمثقف. في أوروبا، منذ ظهور مصطلح المثقفين في فرنسا في بدايات القرن العشرين بعد حادثة "دريفوس" الشهيرة، كان يمكن اعتبار أي شخص يحمل شهادة تعليمية مثقفاً، حتى لو كانت شهادة الثانوية العامة. بعبارة أخرى، كان المثقف في ذلك الوقت هو الشخص غير الأمي، ويبدو أن الحصول على شهادة تعليمية لم يكن متاحاً للجميع، لذا كانت صفة المثقف تطلق على حاملي الشهادات التعليمية.
يرى المثقف الشرقي نفسه ككائن مميز يفوق العوام، وغالباً ما يتبنى فلسفات معقدة ليظهر تميزه وعلو شأنه فوق الآخرين.
في السياق الشرقي، عندما تواجه شخصًا يعتقد أنه ينتمي إلى طبقة مميزة تفوق بقية الشعب، ويظن أنه الوحيد القادر على تحديد مصائر العامة وتدبير شؤون الحياة، ولا يتردد في فرض وصايته على الشعب من خلال نوع من الاستبداد المستنير، ويظهر قدراً من ازدراء الطبقات الأخرى، خصوصاً الطبقة العاملة، مدعيًا أن هذه الطبقات ليست مؤهلة للمشاركة في تحديد شؤون الحياة العامة، فإنك بلا شك أمام من يمكن وصفه بـ "المثقف".
المثقف الشرقي يرى نفسه كفرد استثنائي، يختلف عن عامة الناس، وقد يتعالى عليهم بأفكار معقدة ليظهر تفوقه ومكانته العالية. فهو يعتقد أنه المنقذ الذي يحمي مجتمعه من الجهل والتخلف، والمدافع الأول عنه أمام السلطة السياسية. وينتشر بين المثقفين والعلماء أن العديد من المشكلات والقضايا هي نتيجة للمؤسسات السياسية القائمة أو التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، وأن الحلول لهذه القضايا يمكن استنباطها من المثقفين فقط.
تقع على عاتق طبقة المثقفين مهمة التنوير، حيث يبرزون المشكلات الكبرى التي تواجه عامة الشعب، لأن كشف النقاب عن هذه المشكلات ليس سهلاً ولا يمكن للعامة القيام به. كما يلعب المثقف دوراً أساسياً في مواجهة السلطة السياسية وانتقاد سياساتها. وفي دراسة أعدها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات حول "المثقف العربي ومتلازمة ميدان تيانانمن"، توصلت الدراسة إلى أن مهمة تطوير الثقافة الشعبية من ثقافة عبادة البطل والخضوع للقوي إلى ثقافة الالتزام بالمبادئ والقوانين والدفاع عن كرامة المواطن وحرياته السياسية هي مهمة المثقفين بامتياز. يسعى المثقف إلى ترسيخ القيم والمعايير التي تحكم المجتمع برؤى عقلانية ودنيوية.
ولكن عندما نواجه القضايا المعقدة مثل الثورات السياسية والاجتماعية، وقضية الإرهاب والتطرف الديني، وتيارات الهجرة نحو الغرب، والحروب المدمرة في المنطقة، وغيرها من التحديات التي تتطلب تدخلًا فكريًا سريعًا من الطبقة المثقفة، نجد أننا نصاب بالإحباط واليأس، لأننا نكتشف أن المثقفين أنفسهم قد يكونون جزءًا من المشكلة التي تحتاج إلى حل.
لفهم دور المثقفين في المجتمع، يجب التركيز على أفعالهم الفعلية بدلاً من الادعاءات التي يقدمونها أو التصورات التي يحملونها عن أنفسهم. وفقًا لـ "توماس سويل"، المثقفون، مثلهم مثل الآخرين، يمتلكون تصورًا حدسيًا عن كيفية سير العالم والأسباب الكامنة وراء الأحداث. هل المثقف هو من يشعل الثورة، أم أن الثورة هي التي تخلق المثقف؟ ما الذي يدفع المثقف للتمرد على السلطة السياسية؟ هل المثقف هو من يصنع الثقافة، أم أن الثقافة هي التي تشكله؟ عندما نفهم طبيعة هذه الأسئلة، نستطيع التمييز بين المثقف الحقيقي والمثقف الزائف أو المخادع.
يصف الدكتور نديم البيطار المثقف الحقيقي بأنه ليس من يحمل الشهادات العليا أو الدكتوراه، وليس من قرأ الكثير من الكتب، بل هو من يستوعب العقل العلمي ويمثله، وليس فقط يدركه. العقل العلمي يعني استخدام المنطق لاتخاذ قرارات حول كيفية التصرف، والقدرة على تطبيق ذلك على المشاكل التي يدرسها أو يحاور فيها. المثقف الحقيقي يتميز بالموضوعية والعقلانية والنقد العلمي في استيعاب المعرفة. لذلك، من السهل أن يكون المتعلم نصف-مثقف بدلاً من مثقف حقيقي، لأن النصف الآخر يتطلب فهمًا حقيقيًا لطبيعة المعرفة.
يعتقد العديد من المثقفين الشرقيين، بمجرد قراءتهم للكثير من الكتب الفكرية والعلمية، أنهم قادرون على فعل أي شيء. يرون أنفسهم كأدوات للوعي والمعرفة، والمدافعين عن مجتمعهم في مواجهة السلطة الحاكمة. هم الذين يعرفون الحقوق ويسعون لحل المشكلات الاجتماعية بتعالي دون أن يجدوا الحل. يشبهون الأطباء الذين يشاهدون مرضاهم يتعذبون دون أن يستطيعوا مساعدتهم، لأن الأعراض التي يرونها لم تُذكر في كتبهم الجامعية.
لكن الانتلجنسيا الشرقية وقعت في العديد من المآزق الأخلاقية والفكرية، بما في ذلك مشكلة العقلية التبشيرية والوعظية التي تتناقض مع العقلية العلمية، وميولها للتجزيئية في النظر إلى القضايا والظواهر بشكل منفصل بدلاً من ككل. كما تميزت الانتلجنسيا الثورية بنقص الاهتمام بالاتجاهات بعيدة المدى. كل هذا يجعل العديد من المثقفين الشرقيين زائفين ومخادعين.
مثلما حدث مع "جريجور سامسا" في رواية "المسخ" لـ "فرانز كافكا"، حيث استيقظ ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة كبيرة عفنة، استيقظ المثقف الشرقي ليكتشف أن الكتب حولته إلى مخادع. تحول إلى مثقف زائف يقول ما لا يؤمن به، ويدافع عن أفكار يرفضها في أعماقه، وغير قادر على التحرك لفعل أي شيء حيال مجتمعه.
-
يوسف الدرقاوييوسف الدرقاوي من مواليد ماي 2003 متدرب في معهد التكوين المهني حي السلام