أديب "الخلّاط" - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أديب "الخلّاط"

  نشر في 01 ماي 2022 .

كرّس الأديب نجيب محفوظ حياته كلها للقراءة والكتابة، فقد عُرف عنه انه لم يترك مصر سوى مرتين؛ الأولى في رحلة قصيرة إلى اليمن، والثانية إلى يوغوسلافيا، فكان من الطبيعي أن يقوده النظام الذي التزم به إلى الفوز بجائزة نوبل.

إلا أن غريمه يوسف إدريس عبّر عن غضبه لأنه رأى نفسه هو الأجدر بهذه الجائزة. وفي لقاء له ببغداد مع الروائي السوداني الطيب صالح، قال له هذا الأخير:" ما أعجبك يا رجل، أتريد أن تفعل كل هذا، أن تعشق، وتلعب، وتشرب، وتطوف بلاد العالم تلهو وتمرح، وتريد فوق هذا كله أن تحصل أيضا على جائزة نوبل؟

هذه الواقعة تُلامس بعض الظواهر التي انتشرت مؤخرا في فضائنا التداولي العربي، خاصة في ظل التداخل المفرط بين الحياة الأدبية ومواقع التواصل الاجتماعي. بالأمس القريب كانت أعمال الأديب وإنتاجاته هي تأشيرة عبوره إلى المشهد الأدبي، أما اليوم فحضوره في السوشيال ميديا لا يقل أهمية عن إضافاته النوعية، أو حتى الكمية فقط، في حقل الأدب والثقافة عموما.

تحول البحث عن قاعدة من القراءة، إلى الانخداع بالمجاملات المفرطة، والنجومية الافتراضية التي تجعل كل قول، بليغ أو ساقط، يحظى بالمتابعة والإشادة، وتزداد مؤشرات قبوله كلما ساير المعجبين ولو على حساب المنطق والتفكير السليم.

نعم، صار الأديب أقرب للجمهور من أي وقت مضى. وانهار البرج العاجي الذي كان يفصله عنهم. وفي هذا القرب تحققت شرط إنساني لا ننكره، والمتعلق بإنصات الأديب لنبض المجتمع، وتوظيف تكنولوجيا الاتصال لرصد تفاصيل من الحياة اليومية تغذي ملكته الإبداعية. غير أن للقرب تكلفته كذلك، خاصة حين صار مؤهلا للمكانة الأدبية.

قدمت السوشيال ميديا خدمة "موت الناقد"، فلم يعد الأديب بحاجة إلى وسيط بينه وبين القارئ. تلك الحرية التي أشاد بها بعض الأدباء، لأنها تتيح التعرف على ملامح الخريطة الأدبية العالمية، وتفسح المجال لكل المواهب دون وصاية أو رقابة، هي نفسها الحرية التي جعلت من الطنطنة الفارغة، والكتابات المتواضعة بشكل مؤسف، نصا أدبيا يسعى خلف قرائه، ويؤسس للقبح الفني في انتظار أن يقول الزمن كلمته.

يحكي الروائي المكسيكي غابرييل غارسيا ماركيز عن شاب في الثالثة والعشرين من العمر، جاء إلى بيته بمدينة مكسيكو، وكان قد نشر روايته الأولى قبل ستة أشهر، ويشعر بالنصر في تلك الليلة لأنه سلم لتوه مخطوط روايته الثانية إلى ناشره؛ يقول ماركيز، أبديت له حيرتي لتسرعه وهو ما يزال في بداية الطريق، فرد علي باستهتار:" أنت عليك أن تفكر كثيرا قبل أن تكتب، لأن العالم بأسره ينتظر ما ستكتبه، أما أنا فأستطيع أن أكتب بسرعة لأن قلة من الناس يقرؤونني".

إن ذلك الشاب، قرر سلفا أن يكون كاتبا رديئا، إلى أن حصل على وظيفة جيدة في مؤسسة لبيع السيارات المستعملة، ولم يعد بعدها إلى إضاعة وقته في الكتابة!".

يبحث بعض الموهوبين الشباب عن التشجيع، وهذا أمر مطلوب ولا غبار عليه. إلا أن التشجيع في السوشيال ميديا يأخذ طابع النجومية الزائفة، ويؤسس لوهم التسلق السريع لشجرة الأدب. ويكفي أن يلقي المرء إطلالة على صفحات بعض الكُتاب الشباب ليقف على سهولة كتابة وإصدار الروايات والأعمال الشعرية، بمساعدة من دور نشر لا يهمها في المقام الأول سوى بيع المنتج. وبينما كان الأديب يشتغل لسنوات طوال كي يؤسس عالمه الروائي أو الشعري، صار بإمكان شباب في العشرينات والثلاثينات أن يُصدروا قائمة كتب في ظرف قياسي.

ما الذي يتطلبه إصدار رواية مثلا؟

ستحتاج لتوليفة من الحب والجنس والدم، ثم ضع الجميع في خلّاط واضغط على الزر! وإن كنت ممن قرأوا بضع روايات، فيمكنك أن تنسج على منوال إحداها ليكون لك نصيب من شهرة النص الأصلي حتى وإن غاب عن نسختك المحلية ذكاء السارق!

وقس على ذلك فيما يتعلق بالكتابة الشعرية التي لا تعني لدى البعض سوى كتابة عمودية تتخللها قافية.

أما الخدمة الثانية التي تقدمها السوشيال ميديا لأدباء "الخلّاط" فهي سهولة الخوض في أي نقاش عمومي مادام يحظى بالمتابعة، ويرفع مؤشراتهم في بورصة المعجبين. وبعد أن كان الأديب منصرفا لشؤون الأدب وقضاياه، صار اليوم مندفعا بشكل غريب ليثير خلافات وانقسامات اجتماعية. نعم، من حقه التعبير عن رأيه، لكن حضوره الأدبي كاف لنقل الرسائل الاجتماعية والسياسية بلغة الأدب، ومن خلال استحضار البعد الفني والجمالي.


  • 4

   نشر في 01 ماي 2022 .

التعليقات

hiyam damra منذ 2 سنة
في عالم السوشيال ميديا تبدو الأعمال الأدبية متشابهة وباتت اللغة الفنية الشعرية تطغى على كل ألفنون الأدبية، لكن يظل لأسلوب الكاتب قدرة على التأثير على المتلقي خاصة حين يكون المتلقي مبدعا.. دام حرفك وفكرك
0
حميد بن خيبش
صحيح، ومكمن التشابه في تكرار نفس المواضيع الأدبية ، والعجز عن الخروج من دائرة المحاكاة.
شاكر لك مرورك الطيب.
ياسر السيد منذ 2 سنة
النفيس دائما له ثمن غال وانت منهم.
0
حميد بن خيبش
أشكر لك متابعتك الطيبة أيها الفاضل.

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا