تراءت له شرم الشيخ ، كواحة ري و سقاء في مفازة شديدة القيظ ، كانت هذه المدينة كلؤلؤة بحرية مختبئة بين جبال في طريق صحراوي مميت ، لا يكاد ترى فيه إلا كثبان صحراوية و جبال اصطفت وراء بعضها كسراب غابر...
شرم الشيخ عبارة عن منتجع سياحي عملاق ، اصطفت فيه الفنادق المصنفة على طول ساحلها البحري الأحمر ، كانت شمسها حين وصولهم تميل إلى الذبول ، كعملاق فقد قدرته بعد إعياء ، تراءت له اليخوت الرابضة فوق مياه البحر الأحمر ، لا أثر للفقراء هنا ، أو هكذا خيل له ، من فرط مناظر الفنادق المصنفة عبر طول الطريق التي فصلت مدخل المدينة بالفندق الذي حجز فيه ..
كان الفندق الذي قضى فيه خمس ليال عبارة عن منتجع شاسع عملاق ، منتجع من فئة الخمس نجوم ، يوفر خدمة راقية شاملة لكافة الخدمات ، مقابل ثمن مناسب جدا للأجانب ، و كانت غرفته تطل على مسابح متعددة ، و رؤية بحرية بعيدة . كان تعامل طاقم العمال في الفندق راقيا جدا ، و هو شيء ليس بالغريب على شعب يستعمل حتى في تعامله مع بعضه البعض في الشارع ، عبارات الإحترام .
كان الفندق يضم مسابح كثيرة ، بالإضافة إلى ألعاب مائية ، و بحر خاص ، يمتد على مساحة كبيرة ، الشيء الذي راق له كثيرا ، باعتباره كائنا بحريا ، عاش بين أحضان البحر في ضغره ، و يعشق كل العشق النوم على أصوات النوارس و أمواج البحر ، فلما زاره في جولة تعريفية هو و أسرته ، واعده بينه و بين نفسه ، أن يزوره في وقت لا يكون فيه غيره ، أو ممن ابتلي مثله بالتصوير و البحث عن الراحة و الخلوة ، لاحظ أيضا أن أغلب نزلاء الفندق ، من روسيا و ما جاورها من بلدان ...
قضى الليلة الأولى منهك القوى ، نام كما ينام الطفل الصغير ، بعد صلاة العشاء مباشرة ، لكنه بيت النية على الإستيقاظ لصلاة الفجر ، و الخروج إلى شاطئ البحر ، و هكذا كان ، استيقظ لصلاة الفجر ، صلاها ثم خرج برفقة قمرته يقصد الشاطئ ، كان الشاطئ بعيدا شيئا ما عن غرفته ، كان يلزم الماشي إليه خمس دقائق من الزمن للوصول إليه ، و كان الشاطئ عبارة عن مساحة كبيرة خاصة ، اصطفت على رماله الحجرية كراس و مقاعد سريرية ، و يخترق بحره طولا معبر خشبي طويل ...
أخذ مكانا له على مقعد خشبي ، كان لوحده في تلك الساعة ، و بعض النوارس ، التي تلهو على الشاطئ النائم الهادي ، كانت الشمس تستعد لإعلان انتصارها على الظلام في معركتها اليومية ، و بعثتت بعضا من ألوانها الجميلة تبشر الأفق بمقدمها ، و نسيم الهواء كماء طهور ، يطهر دنس النفس ، و إنه لا يعلم كيف يغفل الكثير من الناس عن هذا الجمال ، ترائى له الأفق مفعهما بالحب ، و كل شيء جميل ، هاهو الآن على أرض طارد فيها فرعون نبي الله موسى و قومه ، لعله الآن في مكان قريب من المكان الذي فلق الله عز و جل البحر لموسى فيه ، لعل خطواته وافقت خطوات نبيا الله موسى و أخيه ، هنا في مكان هنا على هذي الأرض ، جاوز ربنا العظيم ببني إسرائيل البحر ، و أوحى إلى موسى صلى الله عليه و سلم أن إئتني إلى الطور ، هنا في مكان ما على هذه الارض طلب موسى صلى الله عليه و سلم من الله عز و جل أن يريه ينظر إليه !
و جاء موسى صلى الله عليه و سلم ، بعد أن أخبره الله عز و جل أنه فتن قومه و أضلهم السامري ، و شاهد بأم عينيه ، و أردى الألواح الأرض و أخذ بلحية أخيه يجره إليه ، موسى صلى الله عليه و سلم الذي وكز الذي هو من عدوه ، فأرداه قتيلا ، جاء إلى السامري ، بكل هدوء ، و خاطبه بكل هدوء و قال : ما خطبك يا سامري ؟ فأجابه السامري متحديا : بصرت بما لم يبصروا به ، و قبضت قبضة من أثر الرسول فنثرتها و كذلك سولت لي نفسي ! فأجابه موسى : إذهب ، فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس !
كان بإمكان موسى وكزه ، و يستحق على ما فعله بقومه ، و لكنه قال له ، إذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس ، لا يمسك أحد بسوء ، و لا يقدر على أذاك أحد ، لا يسلط عليك أحد مهما بلغت قوته و أوجه ، بل لك موعدا لن تخلفه ، سيأتي ، موعد مقدر ، محدد ، ستصله و تراه ، و لكن إلى أن يصل ذلك اليوم فلن يقدر عليك أحد و أنت حر في فعل ما تشاءه ، بتقدير من الله ، و أن تهيء الأرض كلها لفتنتك القادمة التي سيهلك فيها الكثير الكثير من الغرقى في فتنتك.
من هنا بدأت القصة ، و إلى الآن و بعد أكثر من ثلاثة آلاف عام ، لا يزال ذاك الذي يقول : لا مساس ، لا يزال يفسد في الأرض إلى أن يخرج الذي هو موعده ! كل التاريخ في هذه الأرض ، البداية هنا كانت ، و النهاية في أرض كنعان ستكون ، و بين هذا و ذاك ، لا تزال هذه الأرض محور القلوب ، بأسرارها ، و ملكوتها الذي أودعه الله فيها .
مذ كان في الرابعة عشرة من عمره ، بدأ رحلة البحث في التاريخ الذي لم يدرس له و لجيله و لا لأحد من الأجيال ، هناك تأريخ درس للجميع ن و تأريخ يقبع في الدهاليز المجهولة ، لا يمكن لأحد من العامة الإطلاع عليه .. من هنا في هذه الأرض ، بدأت قصة التآمر الكبير الذي يقوده منذ آلاف السنين ، شخص لا يرقب في أحد إلا و لا ذمة ، هنا في هذه الأرض ، منذ آلاف السنين ، استغل قرب عهد بني إسرائيل بالإيمان ، و أخذ منهم حليهم ، و صنع منها عجلا ، و نثر عليه من أثر جبريل عليه الصلاة و السلام و فرسه حينما نزلوا لإراق فرعون و جنوده ، فأصبح ذا خوار ، و قال لبني إسرائيل : هذا ربكم و إله موسى فعبدوا العجل من دون الله ! إن من يسلك الطريق الذي لا يسلكه العامة ، ينبش مشككا في التأريخ الذي يقص على العامة ليجد نصيبا لإجتهاده .. الكثير من الأشياء التي أصبحت عنده يقينا مؤكدا ، كانت طيلة فترة بحثه ، مجرد فرضيات يبحث لها عن تأكيد ، و أصبحت الآن واقعا تحقق بعضه ، و يؤمن بوجوده كما يؤمن أنه يتنفس نسيم الشاطئ في هذه المدينة الجميلة ، كان يعلم و هو ابن الخامسة عشرة ، أن أي نظام عالمي ، لا بد له من رئيس ، يحكمه ، و يرسم من يوطد لنظامه في شتى بقاع العالم ، لكنه كان كالكثير من المسلمين اليوم بالوراثة ، يجهل أي شيء مرتبط بشخص اسمه المسيح الدجال ، حتى أخبره أحد أصدقائه في الثانوية ، أنمن علامات الساعة الكبرى شخص سيخرج على الناس آخر الزمان من أحل ادعاء الربوبية و الألوهية ، و أن الله سيعطيه قدرات يفتن بها البشر اختبارا و امتحانا لإيمانهم ، فكان أن ربطت الخيوط من تلقاء نفسها ، استمربحثه طيلة فترته الثانوية ، و بعد أن سافر إلى ألمانيا من أجل الدراسة تأكدت الأمور لديه ، أن من يجلس الآن خلف ستار هذا النظام العالمي الإبليسي ، ليس إلا سامري بنو إسرائيل الذي يقال له منذ تلك الحقبة من الزمان : لا مساس . و جميع من يسيرون نظامه الدجالي ، هم تحت إمرته ، علموا ذلك أم لم يعلموا ، رضوا أم لم يرضوا ، فهم مرغمون على العمل عنده .. الإشارات إليه في نظامه تخرق العين ، و الإشارات إليه في آثار الحضارات السابقة تخرق العين أيضا ، صاحب العين التي ترى كل شيء ، أو هكذا يخيل إليه ، أسس منذ آلاف السنين ، من أجل أن يصل إلى النتيجة التي وصل إليها اليوم و خطته على مشارف الإنتهاء ، لولا أن مكر الله الكبير شديد ، سيصيبه في مقتل بعض زمن ليس بالكثير مقارنة بما فات من عمره .
هو هو صاحب فتنة الصليب ، و من دلس على النصارى في فكرة ابن الله المتجسد ، و هو هو الذي قسم أمة محمد صلى الله عليه و سلم إلى فرق متناثرة متناحرة ، كل يعبد رمزا قدسه .. ينفذ خططه كالقاتل التسلسلي ، فحينما تتبع الفتن منذ انطلاقها في التأريخ ، تجد بصماته واضحة لكل ذي بصيرة ، نفس أسلوب الإجرام تجده وراءه في كل مرة ، نفس أسلوب الفتنة ، نفس أسلوب التحدي الذي تحدى به موسى عليه الصلاة و السلام حينما قال له : و كذلك سولت لي نفسي ، قالها للعالم حينما انتشرت مخططاته في البروتوكولات و المحافل النورانية العالمية : كذلك سولت لي نفسي ، لأنه يعلم أنه من المنظرين ، و أن لا أحد سيقدر عليه إلى أن يأتي موعده المحدد .
كان يعقوب يعلم أن النخبة في العالم يجتمعون كل مرة من أجل تلقي الأوامر و مناقشة تطبيقها في العالم على العامة ، و أن من لا يفتح عينيه على ما وراء الأشياء المحيطة ، لا يمكنه البتة أن ينجو من الفتنة الكبيرة العوراء التي تتربص بالعالم كما تتربص الحية بطريدتها ، و أن جميع ما سيحدث في المستقبل مخطط له بعناية فائقة ، بشكل خوارزمي ، لا خطأ فيه .. فمثلا كان يعلم سلفا ، حينما كان يدرس في ألمانيا ، أن النار ستصيب جميع الدول العربية بدون استثناء ، و أنهم خططوا لذلك ، و لكنه لم يعلم كيف حينئذ .
كان شغفه في البحث عن ما وراء الستار كبيرا جدا ، حتى أنه كان يخصص له الليالي الطوال ، يعيد قراءة التأريخ بعيدا عن الطريقة التي يراد للعامة قراءته بها ، كان يأخذ بتلابيب الكتب و المخطوطات ، باحثا عن غريمه الأعور ، فيجد آثاره واضحة جلية ، عبر الأزمان ، بردائه و طريقة تفكيره ، بكبره ، و خداعه ، و علم فيما بينه و بين نفسه ، أن هذا العدو أكبر عدو للبشرية بعد إبليس ، و أن من لم يعرفه ، يوشك أن يتخذه ربا حينما يخرج إذا طالت به الأعمار.
كان طوال الليالي الخمس التي قضاها هناك ، يستيقظ صباحا ، و يستلقي على ضفاف الشاطئ بعد صلاة الفجر ، و سنام نومة هانئة حتى تشرق عليه الشمس و تدغدغ جفنيه ، فيقوم و يستحم في الشاطئ ، و يعود إلى غرفته . كانت هذه المدينة على صغرها جميلة جدا ، تعتبر قبلة لكل من أراد الراحة و السكون و الخلوة ، غير أن شيئا ما استحوذ على انتباهه ، فقد بدأ في ألمانيا و قبل دخوله إلى المغرب للإستقرار ، في تعلم اللغة العبرية ، باعتبار أن من تعلم لسان قوم أمن مكرهم .. أثار انتباهه ، تردد بعض المل و الكلمات العبرية التي تعلمها ، فعلم أن الصهاينة ، أو عل الأقل عرب إسرائيل يشاركونه نفس الفندق ، لم يثر ذلك دهشته ، فكيان اليهود المغتصب ، لا يبعد عن مدينة شرم الشيخ إلا ببضع كيلومترات ...و لكن الشيء الذي أثار دهشته هو تجوالهم العادي بدون قيود داخل الأراضي المصرية ، بسياراتهم التي يكتب على لوحات ترقيمها : جمرك طابا ، فتعلم تلقائيا أن هذه السيارة قادمة من الكيان المغتصب ، يعربدون هناك ، يقامرون ، يتمتعون ، فوق أرض لازالت عظام جنود مصر الأفذاذ آنذاك شاهدة على وحشية أجدادهم ، حينما كانوا يأمرون الجنود بحفر قبورهم ، و حينما ينتهون يطلقون عليهم الرصاص و يردمون عليهم الرمال التي حفروها .. كان ينظر إليهم بمقت شديد ، و ترسخت عنده العداوة أكثر ، فكما عاهد أجدادهم الصهاينة الأول محمدا صلى الله عليه و سلم على العداوة أبد الدهر ، هو يعاهدهم بينه و بين نفسه على العداوة أبد الدهر ، حتى يأتي اليوم الي يدخل فيه القدس ، بدون قيود ، لتنقى الأرض المقدسة أخيرا من دنس الصهاينة ، و نشتم نسيم الأنبياء ، الذين صلوا عند المسجد الأقصى ليلة الإسراء .
في غد .. أول تجربة في عالم الميكروباص
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة