(إنهن النساء )وصهوة من صهوات السرد الفني - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

(إنهن النساء )وصهوة من صهوات السرد الفني

(إنهن النساء) وصهوة من صهوات السرد الفني

  نشر في 11 فبراير 2018  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

 (إنهن النساء) وصهوة من صهوات السرد الفني

من كتاب ( كيف تصبح كاتباً) ص 107

للناقد الأديب محمد حمدان السيد

دراسة أدبية في النقد الانطباعي في المجموعة القصصية (إنهن النساء) للقاصة الأديبة هيام فؤاد ضمرة المنشورة عن دار وجوه للنشر والتوزيع عام 2007م في الرياض.. اعتمدها الكاتب في كتابه (كيف تصبح كاتباً) المنشور عن دار المأمون في عمان 2017م كمثال يحتذى في تعليم فن القص الأدبي

1- مقدمة:

شيء من التاريخ:

قال تعالى: ( لقدْ كانَ فِي قَصًصِهمْ عِبْرَةً لأُولِي الألبَابِ) يوسف 111

وقال جُلّ من قائِل: (فاقْصُصِ القَصًصَ لعلّهُم يَتَفَكَرُونَ) الأعراف 176

ليس علينا أن نقدم القرابين في محراب ما نسجوه من قواعد لقيام فن القصة على قدميها؛ فأبواب هذا الفن مفتوحة لمن يستطيع الإضافات، أو لمن يستطيع الخروج على القواعد المتواضع عليها؛ إذا جاء الخروج في مكانه اللائق من الانتفاض على أيقونات وضعية هي ليست وحياً، لا يمكن تجاوز حدوده أو القفز فوق حواجزه. وأنا لست في هذا الكلام متألياً على أحد من أرباب هذا الفن، فغوغول الروسي الذي قيل إنه أول الرواد الروس لهذا الفن، بدأه على غير منوال، ودون قواعد، وهو لم يلق التقدير المناسب إلا بعد لأي من نشر قصته (المعطف).

وها هو موباسان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، يكتب القصة الحديثة، متخطيا ما كان متعارفاً على تسميته (بمصنع الأكاذيب) الذي هو اجتماع مسائي لأركان سكرتارية الفاتيكان ورفاقهم في قاعة فسيحة من قاعات الفاتيكان، حيث تُقص القصص والحكايات والنوادر، التي تدور مواضيغها حول أناس إيطاليين عاشوا في القرن الرابع عشر الميلادي، وكان أخصب المجتمعين خيالاً رجل اشتغل قسما كبيراً من حياته سكرتيراً للبابا ويدعى (بوكاتشيو)، إذ بدأ بعد السبعين من عمره، ( وقد تزوج من فتاه عمرها 15 عاما) يدون القصص والحكايات والنوادر التي قصها أو سمعها في مصنع الأكاذيب، وقد سمى مدونته هذه (الفاشيتيا) وكذلك تخطى (موباسان) ما كان متداولاً قبله ولمدة ثلاثة قرون من صور أدب الحكايات المسمى ب (النوفلا) الذي كتبه جيوفاني بوكاتشيو) ودونه تحت مسمى ( الديكامرون) التي كتبها عام 1328م وطبعت عام 1471م في البندقية.

وبكتابة (موباسان) للقصة بصورتها الجديدة، تم الاعتراف له باكتشاف هذا الصنف من الأدب المهم، ولم تك هناك قواعد وأسس ينظر (موباسان) فيها، فيكتب على أساسها، إذ إن كل القواعد التي وضعت فيما بعد، كانت استقراءات واستنتاجات من النقاد نتيجة لمراجعتهم للمدون من هذا الفن، الذي بدأ يأخذ طريقه، ويرسخ مكانته ضمن أبواب الأدب، حيث لا يستطيع صنف آخر أن يقوم بديلاً عنه في تصوير اللحظات العابرة في الحياة الإنسانية بصورة فنية مؤثرة، فهي تقع على مسافة بين الشعر والرواية، إذ أنها تحتوي على العواطف الشعرية الحميمة، وفي الوقت نفسه تستخدم السرد في وضع هذه العواطف في صورة نثرية راقية، تروي بسرعة لحظة واحدة من لحظات حياة إنسان أو محموعة أناس، مختزلة الرواية الطويلة، التي تحتاج إلى أناة في النفس، وتطاول في الزمن، وسيرة تطورية لحياة متكاملة، لا حاجة للقصة القصيرة لتتبع تفاصيلها، وامتدادها الزمني والمجتمعي.

وبناءً على ما تقدم، نستطيع القول: إن القصة القصيرة في تاريخها وانتقالها من الحكاية إلى القصة القصيرة الحديثة، قد شاركت في صنع جذورها، وبناء أساساتها كل الشعوب، ولم يكن ذلك البناء حكرا على الغربيين كما يحاول بعضهم أن يرسخه في أذهان الناس، تلك المحاولات التي أرادت أن تجعل من الحضارة كائناً غربياً وحسب، على الرغم مما في هذا التوجه من تضليل وعنصرية وافتراء على الحضارة، التي هي عامل مشترك، ساهمت في تطوره جميع الأمم والشعوب حتى البدائية منها.

وإذن فالقصة القصيرة بدأت بالحكاية شفاهاً، وكانت تزدحم بالأساطير والمجهولات والغموض والسحر وقصص الآلهة الوثنية وغيرها.. وشيئا فشيئاً انتقلت إلى الاهتمام بشؤون الناس في حدود الطرائف والحكايات التي تروى في جلسات خاصة، ولا هدف لها إلا التسلية وهدر الوقت، ولم تخل تلك الطرائف من الخوارق أو المبالغات.. وقد شاركت في صنعها كل الشعوب؛ ففي دار الإسلام انتشرت حكايات القصاصين والحكواتية، إلا أن التدوين لها بدأ في وقت مبكر قبل أن يبدأ في أوروبا، فكان حي بن يقظان، وبيدبا، وشهرزاد، وغيرها، ثم كانت ملامح الحكايات الأوروبية، التي أتينا على ذكر صورتها، ثم كان (دانتي وسرفنتس ونرفال، وقلعة تشوسر الإنكليزية) ثم تم الانتقال إلى القصة الحديثة التي ابتدأ مسيرتها ( جي دي موباسان) الفرنسي، و(غوغول) ثم (تشيخوف) الروسيان ومن سار على دربهم، واقتفى أثرهم، مع ملاحظة التطور في التقنيات التي أدخلت عليها فيما بعد، كالتحليل النفسي وتكثيف اللحظة، هذا فضلاً عن بعض الغموض والرمز والسحر، وهي مداخلات انتقلت إلى القصة القصيرة الحديثة من عصر الحكايات. وقد شارك في صنعها كُتَّاب عرب ومسلمون منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مثل تيمور والمنفلوطي وغيرهما.

ولا بد لنا هنا من التنويه بالسبق الاسلامي في صنع البناء السردي الفني المتقن وتدوينه، وذلك من خلال قصص القرآن الكريم، التي حملت تقنيات عالية، كنفي الحشو، وتكثيف اللحظة، وتحميل الألفاظ الفنية اللازمة، والبلاغة المعجزة، والدخول إلى قصص الناس العاديين في الحياة والأهداف الراقية، وكذلك من خلال قصص الحديث الشريف المشوقة المكثفة التي اتبعت تقنيات القص القرآني.

وفي التاريخ الاسلامي الطويل، كانت المقامات قصصاً قصيرة، تعتمد أسلوب المقالة، وتنهل من الحكاية طرافتها ومبالغاتها وبساطتها، ولكن دون الدخول في عالم الأساطير، بل إنها رسخت في القصة الحديثة أمر الاهتمام بأوضاع الناس العاديين، واللحظات العابرة في حياتهم، عن طريق التصوير "الكريكاتوري" وقد حجزت ألف ليلة وليلة لها مكانا في الذروة من السرد المحكم، الذي يحتوي على الهدف والتسلسل الحياتي في الرواية الحديثة، وتطور الشخصيات والاهتمام بالزمان والمكان، مع بث الخلفية الاسلامية في حنايا القصص المتتابعة المتصلة، رغم ما وجه لألف ليلة وليلة، من نقد إسلامي بأنها تتضمن الإباحيات مما يلفظه الأدب الإسلامي..

لقد أوردت هذه المقدمة الطويلة، لأبين كيف أن الغربيين حاولوا تسييد حضارتهم، ونفي أي دور للآخرين في البناء الحضاري الإنساني، وكذلك لأبين خطل هذا التفكير، ومن ثم لأوضح أنّ أدبنا كان سباقاً إلى بناء القصة، وحديث السرد الفني، وأنّ القصة القصيرة والرواية الحديثة وجدت لها جذوراً في أدبنا الإسلامي، وما هذا الاحتفاء الأوروبي الكبير بألف ليلة وليلة إلا برهان على هذا الذي نقول.

2- مواصفات وميزات عامة للمجموعة القصصية (إنهن النساء )

وهنا أكتفي بهذا القدر من التاريخ لأدخل في موضوعنا الرئيسي، وهو مجموعة الأخت الأديبة العربية الإسلامية (هيام فؤاد ضمرة ) الموسومة ب ( إنهن النساء)، فأقول: إن الإبداع الاسلامي متواصل، وهو ليس حكراً على الرجال، بل إن الكثير من النساء تفوقن على الرجال في هذا الباب، وقد برهنت الأخت ضمرة على صحة هذا القول، حين امتلكت من خلال مجموعتها هذه صهوة عالية من صهوات السرد الفني، الغني بتجربته، والمتقدم في التحكم بعنان اللغة، حاملاً الثقافات النافعة من خلال سرد فني ملتزم.

لقد قرأت المجموعة من أول حرف فيها إلى آخر حرف، واستمتعت بقصصها واحدة واحدة، ومما استذكرته أثناء القراءة: كيف أن العولمة أدخلت على حياة الناس عجائب من السلوك والاهتمام الحياتي، كما استذكرت في المناسبة المنفلوطي وجهوده التي وطّأت الرضا والقبول للقصة في عالمنا العربي، وكيف أنه رسخ الواقعية الاجتماعية النقدية الرومانسية في السرد، وجاء من بعده يوسف إدريس الذي نهَجَ نهْج الواقعية الاشتراكية ، هذا فضلاً عن إضافات نجيب محفوظ الذي تتبع طبقات قاع المجتمع، وأعطاها زخماً في مسألة السرد، مقلداً بذلك موقف العديد من أدباء الغرب تجاه النقلة الصناعية والرأسمالية الكبرى، ذلك الموقف المأزوم المهزوم أمام الآلة والتغيرات الهائلة، الذي ملأ الصدور بالتقيح والفصام، فراحت الكتابات تنفث الكلام على القراطيس من نفوس مأزومة وصدور متقيحة، فلا يخرج منها بالغالب إلا صور الهزيمة الداخلية، ووقائع الانتقام في المجتمع وذلك باللجوء إلى قاع المجتمع في التصوير والسرد، وإن كان ذلك التصوير قد حُرر من بعضهم بفنية عالية أخذت صفة العالمية .

لكن المهم في الأمر القول بأنّ ستاً وتسعين صفحة، ضمت تسع قصص احتوت على تجارب حياتية غنية، اختزنتها القاصة الإسلامية هيام ضمرة فضمنتها هذه القصص، وأنّ رؤية للكون والحياة تنطلق منها الكاتبة الأديبة، وهي رؤية نيرة، وفضاء إسلامي عام، يحوزان ملكة سردية مقتدرة، فيها المهارة، وفيها الكثير من ممتلكات السرد الفني، فهي توظف هذه الملكات من خلال ذاكرة واعية، وخيال بعيد المرامي، بهدف التغيير؛ تغيير القارئ والسامع تجاه قضية أخذت من القراطيس مساحات شاسعةً في أيامنا، فهي تلقي عليها الضوء بوعي عميق يقول: أن الرجل والمرأة في مجتمعاتنا الحالية مظلومان، من خلال الفرص المحاصرة، والكلمة الحرة، الغائبة، والرؤية الضبابية لما يجري في عولمة متوحشة للعالم، تفرض على الناس الرجل والمرأة طريقاً واحداً ضيقاً، ليمر منه العالم باتجاه واحد وإلا..؟!

ثم إنها بعيداً عن المباشرة، وبعيداً عن الوعظ، وإنْ كان الوعظ في رأيي المتواضع ليس قادحاً في السرد، إنْ أُحسن استخدامه، بل هو في بعض الأحيان يكون واجب الاستقدام.

أقول بعيداً عن كل ذلك، وبالاستهلالات الناجحة، والأسلوب الرشيق، والتمكن المكين من اللغة، واستخدامها الموفق، وببعض الشاعرية، والحوار الفني الموظف توظيفاً تقنياً دقيقاً، والسرد السريع الحركة، وتكثيف اللحظة، والذاكرة الواعية والرؤية النيرة، وتوظيف المؤثرات مثل: التحليل النفسي العميق، واستخدام تيار الوعي في مكانه. أقول بذلك وغيره تهدينا الأديبة الاسلامية هيام ضمرة ضُمامة من ورد صياغاتها المقتدرة في مجموعتها الأولى الموسومة ب (إنهن النساء) فهي مجموعة أنثوية النكهة، إنسانية الأبعاد، إسلامية الضمير المتخفي في ثنايا المعالجة، إنها تهدينا بوحاً قادراً على لفت الأنظار، واستدراج التشويق، وتحقيق الإمتاع في آن...

ولست في تقديمي لهذه المجموعة، وصاحبتها الكريمة مستلاً قلم النقد، الذي يحاكي البُنيوية أو التفكيكية ، لأعزل الكاتبة عن النص، ثم لأهوِّم كما يهوِّم أصحاب النظرتين في غياهب الوهم والأساطير النقدية، والطلاسم التي لا يكاد يفهم أصحابها معنىً لها فضلاً عن المتلقين، فهي ترجمات رديئة لنصوص نقدية في غالبها لا تلزمنا في أدبنا العربي والإسلامي، وذلك لما تزخر به مسيرة وأهداف وبناء الأدبين الغربي والعربي من مفارقات، يصنعها بُعد التجربتين والخبرتين عن بعضهما.

لكنني في تناولي لمجموعة (إنهن النساء) سوف أجتمع مع الميزات، التي احتوت عليها الباقة الكريمة من التجارب اليومية، مقارنا لها مع المقومات الفنية، التي أتيت على ذكرها في قراءتي هذه، وذلك لأشرك المستمعين والقراء الكرام في استجلاء مواطن الإجادة في هذه المجموعة، ولن أشدد على بعض الهنات التي أرى أنها ليست قادحة في التشكيل الجمالي الهادف لهذا الجهد المشكور من الأخت الكاتبة الفاضلة

3- من الميدان

ولننخرط الآن في الميدان.. ميدان التفاصيل في المجموعة القصصية ( إنهن النساء)، وعرضها على المقومات التي ذكرناها آنفاً، فنقول: المجموعة وجه يدخل البيت بقوة على الخط العولمي، الذي تثاقل كلماته في دروب الناس، فتقعد لهم كل مرصد، وتدخل عليهم الأبواب دون استئذان، وتمتطي الألسن، وتسكن في بعض الحالات القلوب والعقول، ولكن وجه المجموعة يحاول تدارك الموقف؛ فهو يطلق صرخة في الجو، الذي تحاول العولمة جاهدة من خلاله اختراقاً اجتماعيا إنسانياً متدنياً في أخلاقه.. في طموحاته.. في رؤاه.. يحمل حكمة باردة مغرضة تقول: عندي التطور! عندي التقدم! تروغ من بين أيديكم ومن خلفكم،، ومن تحت أرجلكم..!

ويتوجع قلب المجموعة القصصية، لعلها بالتوجع تبعد جدار المجتمع عن غربة تترعرع فوق أرصفتنا، وفي شوارعنا، وفي بيوتنا، وهي محاولة جادة تبتغي أن لا تسقط أحلام بعض الناس فوق الحافات المدببة للعولمة، وكل ذلك تفعله المجموعة من خلال استهلالات خارقة لكل مقومات القصة، وداخله في كل مسام تشكيلاتها ونهاياتها.. إنها استهلالات ناجزة مشوقة، ونحن الآن أمام مثل استهلالي من قصة إنهن النساء يقول:

" رهيبة هي لحظات الظهيرة على الطريق الوحيد، الذي يربط وسط البلد المعروف بالشرق بمنطقة السالمية"

وقد دخل هذا الاستهلال في كل جزيئات القصة فيما بعد.. فهو الذي يحرك خيالاً مريضاً لرجل، نسج الحرُّ والزحام ومتابعة سيارة امرأة لسيارته كل تقنيات القصة حتى نهايتها، التي تفاجئ الرجل بإنارة الموقف، ليتبين له أن سيارة المرأة التي أثقلت خياله بشتى الأفكار المريضة، لم تكن متابعة له وإنما هي سارت بالتتابع القريب، لأن صاحبة السيارة كانت امرأة متزوجة سعيدة بزوجها، وهي تسكن في البناية نفسها التي يسكنها.

وها هي قصة (مساواة خرقاء) تتقدم نحونا لنحتفي بها بالقول: أنتِ موطئ اقتباسنا لمثل يدلل على شريط الذاكرة الواعية والرؤية النيرة، تستخدمهما الكاتبة بافتدار في تقنية القصة، لتقنعنا أن دخول الرجل على مجتمع النساء دون مسوغٍ أو ضرورة، خصوصاً إن كان رجلا واحداً يلازم مجموعة نسائية بشكل مستفز، فهو يحضر جلسات عملهن ونقاشهن، ويعطل حريتهن في القول واتخاذ ما يلزم بشأن مهمتهن، لا يتركهن حتى وقت الطعام والراحة، إنها ذاكرة واعية للأصول والأخلاق المتبعة، ورؤية نيرة للواجب في مثل هذه المواقف، واسمع الكاتبة تصف الموقف قائلة:

" الدخيل يظهر أينما ظهرنا، ويحلّ أينما حللنا، ينفث وجوده في أعيننا، نظرات الغيظ والاشمئزاز تهشِّم أريحيتنا، كلعنة قبيحة، خلال ورش العمل الصباحية والمسائية، خلال تناول الوجبات والاستراحات، يستمع إلى مناقشاتنا، يتابع حواراتنا، يرصد حركاتنا، يرقب خطواتنا، يعبئنا وجوده بالقشعريرة"

إنها ذاكرة تحتفظ بشيء من الخصوصية والرؤية القادرة على التمييز بين ما هو عقلي، وما هو غير منطقي في العلاقة بين الرجل والمرأة، وهي تدحر قضية عولمية تريد مساواة مطلقة، وليس تكاملاً فذاً في الأدوار والتكليف، ولقد أشاعت الكاتبة الإسلامية مثل هذه الذاكرة والرؤية النيرة في معظم قصصها بعيداً عن المباشرة.

ولا ننسى في هذا السياق أن نشير إلى ما يحتويه النص الذي اقتبسناه من تدفق سريع في وصف الموقف، تقتضيه اللحظة والمناسبة بجمل قصيرة متتابعة قاصمة، عبأت القارئ معها، خصوصاً وهي تحمل شيئا من الشاعرية تضمنتها بعض هذه الجمل مثل: ( ينفث وجوده في أعيننا، يعبئنا وجوده بالقشعريرة).. وهي جمل تزيد من حميمية تفاعل القارئ مع الموقف، وهذا الأسلوب يمتد في معظم قصص المجموعة، ليشكل طيفاً من الأخيلة الرفيفة المؤثرة في مسيرة السرد، ومحاولة اقناع المتلقين بالموقف، ولا بد أنّ هذا التشكيل في استعمال الخيال بلمسة شاعرية، وتقنية التدفق السريع داخل بوتقة تيار من الوعي، ينبئ بأنه ليس دخيلاً ولا معطلاً لسير الحدث، بل هو يصبّ في لجته، ليلقي على المشهد كله حميمية قريبة من عاطفة القارئ وقناعاته إنْ لم تكن هي هي..هذا فضلاً عن استعمال الألفاظ بمعانيها المستهدفة وتوظيفاتها في اللحظة والمكان المناسبين، مما يزيد من ارتقاء التصوير باتجاه التأثير الكامل:

" نظرات الغيظ، الاشمئزاز يهشم" .. وأكاد أقول: إن هذا الاتقان حدث مع الكاتبة في كثير من مناحي السرد ليمتد إلى جميع القصص تقريباً

ولا تنفك الكاتبة عن إهدائنا المؤثرات الفاعلة، وتوظيفها في السرد لإغناء الحدث، وبيان تفاعلاته، وذلك منْ أجل زيادة تفاعلنا- نحن المتلقين- معه، مما يؤثر على قناعاتنا وسلوكنا فهي في قصة ( بعمر الزيتون) تهدينا باقة من التحليل النفسي، واصفة حالة والد الطفلة الفلسطينية سوسن، المصابة برأسها بإصابة مباشرة من العدو، أثرت على جهازها الحركي، إذ تقول:

" نقلت سوسن نظرها المشدوه إلى وجه والدها، وقد اختفتْ في وجهه الحمرة، يجاهد ليحشر نفسه في جلباب المهابة، فإذا عيناه تغروقان بالدموع الحارة، فتتراءى من خلفهما نظرات مجروحة مكبلة بالانكسار، إنكسار من ألبس ثوب الخضوع عنوة، وجثا على صدره القلق والغضب، حتى كاد أن يكتم أنفاسه، فراح صدره يجاهد هذا الثقل كمن أحاطه سياج القهر والاستبداد من كل جانب"

ولا تظن أيها القارئ أنّ الكاتبة جاءت بهذا التحليل لما يدور في نفسية الأب لمجرد الامتاع والتسلية، أو لاستعراض قدرتها في استخدام اللغة، لا.. إنّ السياق الذي أوردته من النص، هدف إلى وضعنا في صورة التشكيل العام للموقف العاطفي والسياسي والاجتماعي لشريحة كبيرة من سكان فلسطين المحتلة، الذين يرزحون تحت ثقل القهر والاحتلال الجاثم على الصدور، وهو ما أرادت أنْ تبديه هذه القصة لنا، وإذن فهو استخدام مؤثر، وتشكيل يرينا مدى ما تختزنه الصدور في فلسطين من قهر وإرادة للانتقام للكرامة، حيث تأتي نهاية القصة مناسبة لهذا السياق، إذ تخرج سوسن من المستشفى لتعود إلى المدرسة، وأول ما تفكر به الانتقام والانضمام إلى النضال، فتستهل مسيرتها بطعن الجندي الذي أصابها.. ثم ها هي تختتم سيرتها بقولها:

" ومن خلف القضبان تصرخ سوسن: سأخرج إلى حضن النضال، فقد نذرت نفسي لتحرير الوطن، ولن يثنيني شيء حتى أنال أحد الشرفين: النصر أو الشهادة"

ألا تلاحظون استخدام تجسيد المكان( المستشفى، السجن) ؟.. ثم ألا ترون أن الكاتبة استخدمت قبل لحظة التنوير الأخيرة التي أوردناها، وبعد التحليل النفسي الذي سقنا نصه، الكثير من المؤثرات، من مثل الاشارة إلى صمت العالم ومؤسساته الدولية عن برامج القتل والاهانة والقهر اليومي لأهل فلسطين، كما أنها استعملت أشياء المكان لتضفي على السياق ارتباطاً بالتاريخ وامتداداً مع الحياة، ولتتفاعل كل هذه المؤثرات في السرد والنص، اقتراباً من قناعات المتلقي.. فأسمعها تقول:

" ومع كل طعنة تطعنه فيها كان ينمو في داخلها العقل المنتفض بالحياة، حتى غدت الطفلة بعمر شجر الزيتون الفلسطيني، الذي ظل شموخه سامقاً فوق هذا الثرى آلاف السنين"

وإذن فهو القهر الذي يسكن الرجل والمرأة، حتى إذا تحرر الجميع من القهر، وعاود الجميع الرجل والمرأة النظر إلى بعضهما من خلال الإسلام والإيمان فاستوت العلاقة على أساسات التكامل والتفاهم، وليس على التضاد والنكد، وهذا هو ما أرادت الأستاذة هيام ضمرة أن توصله للقارئ، على مدى صفحات هذه الباقة الطيبة من قصص ( إنهن النساء)، ونعم الرسالة، ونعمت الأهداف المهتدية.

4- أخيراً

وأخيراً.. أريد أن أقول لكم شيئاً: هل يحق لي في النهاية أن أهمس في آذانكم أن هلموا إلى (إنهن النساء) ؛ قراءة واستمتاعاً وتدبراً.. فكلماتي الآنفة لم توفِ النص حقه، ولم تضعكم في الصورة كاملة.. وأكاد أجزم بأنّ هذه النصوص لو تخلصت من الألفاظ أو بعض الصياغات الجميلة المبالغ فيها، لكانت كاملة الأوصاف والله أعلم.


  • 4

  • hiyam damra
    عضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية
   نشر في 11 فبراير 2018  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا