هندسة الرموز فيما وراء الصوت - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

هندسة الرموز فيما وراء الصوت

  نشر في 02 نونبر 2016  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

تشير الدراسات الفسيولوجية الى صفحة مزدوجة ذات طابع ثنائي الوظيفة في الدماغ البشري، فيما يتعلق بقدرة الانسان على الوعي بالأشياء وإدراكها، وتتألف هذه الصفحة المزدوجة من صفحتين متمايزتين هما:

الصفحة التناظرية: وهي المسؤولة عن نمط التفكير النوعي والوعي بالعلاقات بين الأشياء (التفكير الكيفي الهندسي والتقني).

الصفحة الرقمية: وهي المسؤولة عن نمط التفكير العددي والكمي.

هاتان الصفحتان تمثلان وجهان لشيء واحد وهو نموذج الوعي الانساني، وهما أيضاً جذران لثنائية معرفية جوهرية هي: (الرياضيات والهندسة). كما أن هذه الصفحة المزدوجة تقابل العديد من الثنائيات الأخرى، على غرار: (الوعي والفعل)، (اللفظ والمعنى)، (اللغة والكتابة)، (الرمز والدلالة)... الخ.

ما الذي تقوم به الرموز بالضبط؟

الهدف من ابتكار واستخدام الرموز كان ولازال هو إدراك ما حولنا وتسهيل الأمر على عقولنا لكي تصل بصورة مختزلة الى الحقائق المجردة، فالإنسان بطبيعته كائن رمزي، لذا نجد أن اللغة والكتابة وكل أشكال الأداء التعبيري والطقوس والأديان، كلها تمثل أوعية للرموز التي توظف غالباً لإخفاء الكثير من المعارف أكثر مما توظف للكشف عنها.

والرمز بشكل عام هو مجرد إشارة أو إيماءة تقربنا بشكل أو بآخر من فهم نماذج العلاقات الخفية بين الأشياء من حولنا من جهة، وما يتكون عنها في نفوسنا من انطباعات ومواقف من جهة أخرى، وتأتي رغبتنا الملحة في التعبير عن كل ذلك بتعبيرات لفظية أو كلامية وأشكال ورسوم كتابية، من حاجتنا الى ايصال نفس الأفكار التي تكونت لدينا الى عقول الآخرين، أو تقريبهم من فهم الفكرة والمعنى المراد ايصاله. لذا تعتبر التعبيرات اللغوية الصوتية أبسط أشكال الرمزية المستخدمة لدينا، وفي أعلى مستوى نجد أيضاً أن التفكير كنظام معرفي شامل يقوم على استخدام الرموز.

ما تقوم به الرموز في حقيقة الأمر، هو أنها تعكس أو تكشف عن العمليات العقلية الداخلية التي نقوم بها، من خلال اخراجها والتعبير عنها على شكل رموز، تستمد مادتها الأساسية من المعاني والمفردات والصور والأشكال والعلاقات والتناقضات بين الأشياء من حولنا، وبيننا وبين كل ما هو محيط بنا. فالرموز تأخذ حيزاً كبيراً في تفكير الإنسان، بحيث أنها تداخلت مع الروحانيات وفلسفات الأديان والعقائد السرانية والغنوصية.

لذا يجب ألا نستغرب أبداً من "كونفيشيوس"(500 ق. م) قوله الشهير بأن: "العلامات والرموز هي ما يحكم العالم وليس الكلمات ولا القوانين"..؟!

إن التعبيرات المجازية والاستعارات والتقنيات البلاغية التي نستخدمها في الكلام والأدب، ما هي إلا تجسيدات حية للطبيعة الرمزية التي لا نستطيع الفكاك منها، وغالباً ما تترجم تلك التعبيرات في عقول المتلقين على شكل صور رمزية، إنها تساعدنا على النجاح في محاولاتنا الدؤوبة للرؤية والاستبصار في كنه الأشياء من خلال الوصف الكلامي. يقول "هنري كوربان" (Henry Corbin): "أن الرمز في المجاز الصوري غالباً ما يعبر عن مستوى آخر للوعي غير البداهة العقليّة. إنّه مفتاح لغز، وهو الطريقة الوحيدة لقول ما لا يمكن أن يدرك بشكل آخر".

ومن المؤكد أن عملية كتابة ورسم الرموز هي في الأساس عملية هندسية، فالهندسة في أصلها ما هي إلا فن ربط وتركيب الأشياء بعضها ببعض لتكوين وبناء أنظمة جديدة ومبتكرة، وهذا يشير الى الكيفية التي كرس فيها الانسان القديم، كل جهوده الكتابية لإيصال رسائل إلينا حول ما كانت عليه معرفته وفهمه لنظام الكون والوجود، في محاولة دائمة لإخبارنا عن الانبعاث والخلق والتكوين والآلهة.. الخ. وهذا بحد ذاته ما جعل الانسان القديم يتفنن ويبدع في التعامل مع الرموز التي ابتكرها، والتي عبرت دوماً عن معتقداته وقناعاته الوجودية والمعرفية، من حيث أن الفن نفسه ما هو إلا محاكاة لعملية الخلق المبدعة لهذا الكون.

تشكل الرموز واحداً من أقوى المداخل التي تستند إليها جميع الفنون تقريباً، نظراً لقدرتها الفائقة في نقل القيم والمشاعر بطرق إيحائية بالغة التأثير في الآخرين، كونها متجسدة بوسط مادي في الرسم كخطوط وألوان وفي النحت بالأشكال والهيئات، وبوسط معنوي في ذات الشعر حينما تصبح منحى وغرض يخدم التعبير عن الأشياء بمدلولاتها اللفظية. أو حتى بغرض التشبيه (Simile) كما في علم البلاغة أو(السميولوجية أو العلاماتية) المتعلقة بالأغراض (Simiotic).

وهذا بدوره يقودنا الى استنتاج عميق للغاية، وهو أنه لا وجود لعلم صحيح يعبّر عن ذاته بالرموز بالمعنى الدقيق للكلمة. 

لذا فإنه يلزمنا وبشدة أن نفرق بين ما هو رمز ووما هو علامة، فالرموز الجبريّة والرياضيّة والعلميّة في حقيقتها ليست سوى علامات تم الإقرار بها من الناحية الاصطلاحيّة وفق ضبط ومقاييس جرى تثبيتها اتفاقاً، في إطار الطرق التي نبتكرها دوماً لتحصيل المعرفة الموضوعية، وهي المعرفة التي قال عنها "جاك مونو" (Jacques Monod) بأنها تنزع إلى استبعاد ما بقي من الرمزيّ في اللغة حتّى لا يقع الاحتفاظ إلاّ بالعيار المضبوط. ومن باب الشطط في الكلام، الذي نتفهّمه على كلّ حال، أن نسمّي رموزًا هذه العلامات التي تستهدف الإشارة إلى أعداد مُتَخيَّلَةً وكمّيّات سلبيّة واختلافات متناهية الصغر. لكن قد لا يكون من الصواب الاعتقاد في أنّ التجريد المتزايد للكلام العلميّ يفضي إلى الرمز. فالرمز مثقل بالحقائق العينيّة، بينما التجريد يُفرِغُ الرمز ويولّد العلامة، في حين أنّ الفنّ يفلت من العلامة ويغذّي الرمز"- إذ تأتى قوة التعبير بالرمز في الفنون من خلال قدرة الرمز على ابراز الرابطة العضوية والبينية بين الشكل والمعنى. الى درجة أن هناك اليوم تفسيرات شتى لظواهر نفسية وخوارق اللاشعور وتأويلات "باراسيكولوجية" تهاجن بين تلك الأشكال، لتعلن بالمحصلة متاهة في شؤون البحث، وترسم ملامح توجه جديد للآصرة بين الفن والعلم مع النفس.

ويمكن الخلوص هنا الى أن الرموز ليست مجرد علامات، لأنها تتخطى الثبات المعنوي وتستبعده تماماً من دائرتها، لتفتح مجالات واسعة للتأويل الذي لابد وأن يتأثر بكل الاستعدادات المسبقة لدى كل منا إزاء فكرة معينة يمكن أن نلمحها من خلال رمز ما أو أيقونة رمزية في جدار، إذ أن الرموز غالباً ما تمثل طبيعة الحجب والإخفاء من جهة، في الوقت الذي تحقق الكشف والإبانة على سبيل النقض، الأمر الذي يجعل للرموز سحراً وتأثيراً بالغاً على الذهنية في كل الأوقات.

ختاماً، فإن ما تضج به عقولنا ويحيط بنا من كل الجهات ليس إلا الرموز، فهي من جهة تجسد صوتنا ومن جهة أخرى تجسد أصداء ذلك الصوت ولكن من جهة أخرى، أعلى أو اعمق، تماماً كما قال "غاستون باشلار" (Gaston Bachelard): أن الصدى يدعونا إلى تعميق وجودنا، من حيث أنه في الحقيقة تحويل للكينونة. إنّ الرمز مجدِّدٌ حقًّا، لأنه لا يكتفي بترجيع الصدى، وإنّما يدعونا إلى احداث تحول في العمق"- لذا فإن مهمتنا على الدوام إزاء كل فكرة تجذب اهتمامنا، هي الكشف عن الرمز الذي يمثل اللغز والشيفرة، والرمز الآخر الذي يمثل المفتاح وحل اللغز..؟!!


  • 3

   نشر في 02 نونبر 2016  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

حمو منذ 7 سنة
بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على سيدنا محمد عبد الله و رسوله و على آله و سلم
اما بعد
تعليقا على هذه المقالة "هندسة الرموز فيما وراء الصوت"
اعلم اخي ان العقل البشري يرتبط ارتباطا و ثيقا بالهندسة بل من ميزات العقل البشري هو الميل الى الاختصار للايحاطة بالعلم . فهذه الحروف التي تنقل الافكار و المشاعر فهي مجرد اشكال هندسية ثم ان العقل البشري او الانسان عموما لا ينفك اكتسابه لأي علم الا بواسطة هذه الهندسة تأمل كل ما حولنا من منشأت فهي في او الامر هندسية انظر الى ما ابهر المهندسين الطابعة ثلاثية الابعاد اليست ذات مبدئ هندسي. ثم هل هذه الحروف الا تعبير هندسي الى اصوات اي اشكال هندسية الى ما يعرف بالحرف ثم الاغرب من ذالك هذه النوتات الموسيقية على تعقيدها اليست خير مثال على الهندسة .مقطوعة موسيقية صينية قد مر عليها دهرا اذا ما حولت الى نوتات تستمع لها و كأنها عزفت للتو.
ثم عالم الذي ننظر اليه لا نستطيع تخيله الا عن طريق هذا الارتباط الهندسي فكل شيئ نتخيله لا بد و ان يكون ذا طابع هندسي. اتدري لا نستطيع التعلم الا بالقلم اي ما يخط القلم لان ربنا الاكرم جعل لنا هذا و أكرمنا بالتعلم بالقلم فلن يكون احد كريم بأن يعلمنا بشئ خير مما اكرم علينا به ربنا الاكرم فلا أحد اكرم منه عز و جل. اقرأ ان شئت قول الله عز و جل "{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } (سورة العلق 1 - 7)" كلمة الاكرم ما ورد في في كتاب الله عز و جل الا في هذا الموضع, ثم انظر الى هذه الامم هل ما طغت الا بعد ان تمكنت من العلم و قالت من اشد منا قوة الا بعد ان تمكنوا من العلم "{ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) } (سورة العلق 6 - 7)" ونسوا "{ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) } (سورة العلق 8)" فلا داعي ان يستشهد الانسان باقوال فلاسفة ما يعلمون من هذه الدينا الا ظاهر "{ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) } (سورة الروم 7 - 8)" و لندع الموراء الذي يزعمون لعقولهم ليتعبوها انما نؤمن بالغيب على ما جاءنا من ربنا و ما أخبر به رسولنا صلى الله عليه وآله و سلم "{ الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) } (سورة البقرة 1 - 5)"
هذا و صلى الله على سيدنا محمد عبد الله و رسوله و على آله و سلم

كتبه المهندس حمو من الجزائر
0

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا