مجرد بوح ..
اعذروني على كلماتي إن كانت صادقة، إن كان اعترافي هذا يؤلمني بقدر ما يؤلم الكثيرين ممن يخجلون من اعترافهم بأنهم غريبون في كل مكان، أن انتماءهم للوطن هو مجرد صورة على هوية ..
نشر في 22 أكتوبر 2018 .
يسألني المسافر الذي يجلس بقربي " هل اشتقت إلى وطنكِ؟!". أن فرق اللغة يجعلني عاجزة عن ترجمة شعوري في تلك اللحظة. ابتسم إليه وأقول له متخصرةً :" أجل كثيراً". يرد لي الابتسامة وهو يربت على كتفي تعاطفاً .. وربما شفقة!
طوال الرحلة أفكر بمعنى الوطن، وأمي التي فقدتها منذ سنوات .. كانت هي الوطن الوحيد الذي يستحق الإنسان أن ينتمي إليه. لكن وطني كان بخيلاً جداً علي، فوطني لم يكن المكان الذي استحقت أن تعيش فيه أمي، لأنه كان قاسياً جداً عليها وعلينا.
إذاً غربتي لم تكن في مغادرتي الوطن، بل كانت في وطني، لأنني لم أشعر يوماً بأنني أشبه ذلك الانتماء، كنت أشعر دوماً أنني مجرد زائرة أو سائحة، كنت أشعر أنني رغم هويتي ولغتي وكل شيء أنني غريبة عن ذلك الوطن، وغربتي كانت وطني دون أمي.
وهذا لا يعد استنكاراً للأرض التي أعطتك هويتها وعنوانك وذكريات طفولتك، أنا لا أنكر الوطن كأرض وتراث وماضي، أنا أنكر الوطن كشعور .. ونحن الذين كنا مجبرين على ترديد النشيد الوطني كل أسبوع صباحاً، وكان الطالب الذي يتراخى أو يقصر أثناء التحية يتعرض لعقوبة قاسية.
أهذا هو الوطن الحقيقي الذي على الإنسان أن يجبر نفسه على أن تتجه مشاعره نحو الانتماء إليه. وطني الذي لم أحقق أياً من أحلامي فيه، وطني الذي عشت فيه الخوف والذل والمهانة .. ووطني وأبناء وطني الذين لدغوني كالعقارب طوال رحلتي ..
لحظة واحدة أنا هنا لست أتبجح كوني أعيش بدولة أوروبية، ولست أعد حتى هذه الأرض وطناً. أنا في هذا الوقت أقول ما قاله نزار قباني منذ سنوات كثيرة :" ليس لي وطن ولا أرض ولا عنوان .. ". لا أحد استنكر هذا القول من نزار الشاعر، فأرجو ألا يستنكره أحد علي، كشخص أحب أن يشارك شعوره مع الجميع.
أنا لا أكره ذلك الوطن، وأتمنى أن تضع الحرب أوزارها ويتوقف الموت عن حصد أرواح العالم، أتمنى أن يعاد إعماره وأن يكون أفضل وطن على الإطلاق، لكن ليس لي رغبة في العودة إلى حيث فقدت أمي، إلى حيث ودعتها وملامح الخذلان بادية على وجهها، لسنا فقط من نخون الوطن .. أحياناً الوطن يخوننا أيضاً.
يخونك الفساد، يخونك الحقد، تخونك الطائفية .. تخونك كلماتك عندما تريد أن تحكي لأحد عن وطنك، أليس الوطن هو المنزل الكبير الذي يشعر فيه المرأ بالدفىء والأمان، ولكن عندما يخسر البيت الأم، العظيمة التي هي من تعطيه ملامحه وحياته .. يبدو كوخاً مهجوراً. مكاناً مظلماً ، قاسياً، غريباً ..
أنا غريبة، وأشعر دوماً بالغربة، ليس لأنني لا أملك وطن، بل لأنني لا أملك انتماء، لا أملك ما يبعدني ولا ما يقربني، لا أملك من يعدني ولا من أعود إليه. ربما من بقي في الوطن ذلك أبي، لكن أبي يبقى أبي .. أبي وليس وطني، أبي الذي اشتاق إليه كثيراً، اشتاق إلى حضنه، إلى حديثه إلى كل شيء به، لكنني لا أشتاق للوطن.
التعليقات
ورائع اعجبني ورآق لي
شكراً جزيلاً لك .
وبالتوفيق الدائم