قبل بضع سنين كانت الأيدي تتداول قرصا مضغوطا بعنوان "الطفل المعجزة". يظهر خلاله صبي يردد خطبة تم تحفيظه إياها، بصوت قوي ومخارج حروف لابأس بها. هنا بدأت موضة "الإعجاز" التي أصبحت اليوم عنوانا لأي شيء نريد له أن يحظى بالمشاهدة.
تمت استضاف الصبي في استوديوهات القنوات المصرية ليردد شيئا مما يحفظه، بدءا بخطب قصيرة ووصولا إلى قصيدة "صوت صفير البلبل" للأصمعي. طبعا قد يدافع أحدهم عن الأمر بكونه تشجيعا لأبنائنا كي يجدوا في الأمر مجالا للاقتداء والمحاكاة، خاصة وقد أصبح أغلبهم يطمح لأن يكون "سبايدرمان" وأغلبهن أن يصرن بجمال "فُلّة" وسيقانها المشوهة.
وبما أنه لم يكن للأمر ضابط أو قواعد، فقد ظهرت معجزات أخرى لزيادة نسبة المشاهدة، سواء في القنوات الفضائية، أو على مواقع التواصل الاجتماعي. وهو الأمر الذي بلغ أوج انحداره بظهور غلمان يؤسسون منهجا فريدا في الدعوة، والخطابة فوق المنابر. أقول منهج رغم أنه لا صلة بالمناهج التي دأبت كل العلوم على التزامها كنسق للبحث وتوظيف أدوات علمية ومجردة لتطوير المعرفة.
سبب هذا الحديث هو رد وصفه نشطاء الفايسبوك بالمُزلزل والرادع، يدافع فيه الخطيب الشاب محمود الحسنات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إزاء الكلام المغرض الذي تفوه به القمص زكريا بطرس. فكان الرد أقبح من الزلة، والقصف بخراطيش بالية تكشف عن انحدار مؤلم في الوعي والفهم، وتسيء إلى هذا الدين بدل ان تخدمه.
دعونا أولا نتفق بأن من واجب كل مسلم أن يدافع عن دينه، وأن يرابط على ثغر من ثغوره تحقيقا لمعنى الخيرية التي خص الله تعالى بها هذه الأمة بشروط. لكن هذا الدفاع بحاجة أولا إلى ضابط تعبدي هو النية، ثم إلى معرفة جيدة بما يدافع عنه. فكيف يصح أن يدافع المسلم عن نبي لم يدرس سيرته، ولم يتتبع نماذج الاقتداء فيها؟
يصرخ الخطيب فوق المنبر مزمجرا ومتوعدا بطرس بالرماح والرياح والجناح. ثم يقفز إلى أبيات شعرية، هي كل حصيلة الخطيب في الألفية الثالثة، ليخبر بها عن جيوش " لا أدري أين ثكناتها؟" تصطف اللحظة لتقلب موازين العالم.
دعونا ثانيا نؤكد بأن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه من أشرف الواجبات التي ينهض بها المسلم. لكن مرة أخرى: بأي منهج وبأية وسيلة؟ هل بتبادل السب والشتائم، وجلب كل الأوصاف القذرة من عالم الحيوان؟ أم بمراجعة أسباب الضعف التي قادتنا إلى تلك الحال، حتى تطاول على ديننا كل عتل وزنيم؟
قلت غلمان على المنبر لأن فوضى التواصل الاجتماعي دفعت العديد منهم لأن يتصدروا قبل أن يتعلموا، ولأن يجعلوا من اليوتوب قِبلتهم، ومن نسب المشاهدات دليلا على رسوخ قدمهم في الدعوة والإفتاء. فصارت "الخلطة" الدعوية الرائجة هي تحويل المآسي الاجتماعية إلى قصص، فيها السر العجيب، والبُعد الخطير، وكل ما يغذي فضول المتابعين وشهوة اقتحام الأسرار وخصوصيات الآخرين.
تكفيك نافذة تطل منها، أو خزانة كتب تجلس أمامها لتقول ما شئت، وكلما علا التصفيق وارتفعت نسب المشاهدة إلا وكانت لك معينا وظهيرا لإسقاط الحدود، والخوض في كل القضايا ولو بغير علم. فهناك على مواقع التواصل الاجتماعي من سيتولى نشر مقاطع الفيديو دون تحقيق أو بينة، ويغدق عليك من آيات التبجيل والتعظيم والبركة ما دمت ترى أن المسؤول عن وضعنا المتردي هو الآخر، وما دمت توهم المتابعين بأنك نصير لهم، وأنهم لا يتحملون أي ذنب إزاء الأوضاع غير السليمة التي يعيشونها.
رحل الشيخ عبد الحميد كشك تاركا أسلوبا فريدا في الخطابة، وإرثا من الدروس والمواقف التي تعكس حرص الرجل على أن يكون سلوكه مرآة لخطبه. فاعتقد الغلمان أن الخطابة مجرد صراخ في وجه الحكام والأغنياء، وسخرية من "النساء العاريات"، وفروسية بغير حصان كما عاشها المتنبي. كل ذلك يغذيه إقبال من الشباب الذين يتوهمون أن مشكلة الأمة هي الحاكم والأغنياء، وأن الشعوب لا تتحمل مسؤولية الضنك والغلاء والفواحش.
رحم الله الإمام الحسن البصري حين سمع رجلا يدعو على الحجاج بن يوسف فقال : لا تفعل، إنكم من أنفسكم أُتيتم، إنا نخاف إن عُزل الحجاج أو مات أن يستولي عليكم القردة والخنازير، فقد روي أن أعمالكم عُمالكم وكما تكونون يُولَّى عليكم !
-
حميد بن خيبشكاتب شغوف