إن الدفع بالشرع فى كل كبيرة وصغيرة قد يبدو ظاهريا مظهرا من مظاهر التدين والحرص على الشريعة، إلا أنه قد يحمل فى طياته رغبة فى الهروب من الواجبات والتبعات مع تجنيب الضمير أى حالة من حالات التأنيب.
ولنأخذ مثلا بنى إسرائيل، عندما أمرهم الله أن يذبحوا بقرة لم ينفذوا على الفور، وإنما سألوا الله وألحوا فى السؤال عن شكلها ولونها وصفاتها ثم ذبحوها فى النهاية. قد يبدوا ظاهريا من فعلهم هذا حرصهم الشديد على الامتثال الكامل للأمر، بل وحرصهم على أن يكون تنفيذهم للأمر مثاليا، ولكن فضح الله دخائلهم وبين أن كثرة السؤال هدفها هو التعجيز والتهرب من الأمر جملة.
لا يأتى الالحاح على الشرع بخير، وإنما يأتى دوما بالتضييق
وفى الغالب لا يأتى الالحاح على الشرع بخير، وإنما يأتى دوما بالتضييق، وبنو اسرائيل فى قصتهم تلك نتج عن الحاحهم أن تحول الأمر الإلهى من مجرد ذبح بقرة – أى بقرة – إلى ذبح بقرة بعينها، ما اضطرهم إلى شرائها بوزنها ذهبا – كما ورد فى الروايات -.
وهناك مثالان على حالتين متشابهتين حدثتا فى زمنين مختلفين تماما، الحالة الأولى هى واقعة أبى بكر الصديق لما حدث استفزاز من أحد المشركين أمام النبى فثار عليه أبو بكر وسبه بسباب خارج (امصص بظر اللات)، والحالة الثانية لما حدث الانقلاب فى مصر مع ما صاحبه من مذابح وانتهاكات فأطلق المذبوحون على ذابحهم لقب (العرص).
فى الحالة الأولى، لم يعلق النبى صلى الله عليه وسلم على الأمر، ولم يعلق أبو بكر عليه بعد ذلك سواء بالأسف أو بالتبرير، بل ولم ترد أى إشارة لأى أحد من الصحابة استفتى فيها رسول الله أو أبا بكر، وذلك فى تفهم كامل للنفس البشرية واستيعاب كامل لمقاصد الشريعة وأهدافها.
أما فى الحالة الثانية، فقد التجأ فريق كبير من المتنطعين – الذين لا يريدون قول الكلمة ولا يعرفون بديلا – إلى الشرع طالبين حكمه فى هذا اللفظ!!، فكان ما كان أن انقسم الفقهاء (وخلينا نمشيها فقهاء) إلى قسمين، قسم يرى أنها تلفظ بفحش لا يجوز للمسلم (ولهم منطق فى ذلك)، وقد انضوى تحت عباءة هذا القسم كل فقيه سيئ السمعة من مؤيدى الانقلاب أو الساكتين عليه (حقنا للدماء) فى تحدى واضح لمقاصد الشريعة وأهدافها!!.
أما القسم الآخر ممن اكتوى بنار الانقلاب فحاول جاهدا أن يبيح اللفظ ويحله فى تحدى واضح لأبجديات العقل والمنطق واللغة والشريعة على السواء!!، بل وصل الأمر بالفريق الثانى أن خصصت حلقة كاملة على قناة الجزيرة لبيان ذلك حضرها أحد الفقهاء المحترمين حقا (صديق عزيز ما علمت عنه إلا كل خير) بلباسه الأزهرى حاملا بين يديه العديد من المجلدات التى تعزز رأيه، وأخذ يكرر الكلمة بلسانه عدة مرات مع مشتقاتها (عرص، معرص، تعريص) وكيف أن الكلمة لا غبار عليها ولا تعد من السباب فى مشهد لا يختلف كثيرا عن مشهد على جمعة وهو يدلس بالآيات والأحاديث!!
فى الحالة الأولى أدى التفهم الكامل للسياق وللنفس البشرية ولمقاصد وأهداف الشريعة إلى تجنيب الشريعة نفسها هذا اللغط مع الحفاظ على المعنى واضحا بأن جاز للمظلوم سباب الظالم دون الحل أو التحريم ودون الخوض فيما لا ينبغى الخوض فيه.
وفى الحالة الثانية أدى الزج بالشرع فيما لا ينبغى الزج به إما إلى تضييق (القسم الأول) وإما إلى صورة من صور التدليس (القسم الثانى).
إذا أردت أن تتهرب من أمر ما فأحله إلى الشرع!
فإذا كان المثل يضرب بالروتين الحكومى فيقال: إذا أردت أن تقتل فكرة فشكل لها لجنة، فإننا نستطيع أن نقول على متنطعى الفقه: إذا أردت أن تتهرب من أمر ما فأحله إلى الشرع!.
فعلينا أن نتعلم متى نسأل ومتى نسكت، فقد أوصى الرسول الصحابة بذلك وأخبرهم أنه سيحل أشياء وسيحرم أشياء وسيسكت عن أشياء وأوصاهم أن لا يسألوا عن ما سكت عنه حتى لا يضيق عليهم.