صباحُ الجمال معشر من لم تمت قلوبهم بعدُ .. و سلام من الله و قناعة ..
أما بعد ُ ، فأغمض عينيك ، و قل من أعماق أعماقك : الحمدُ لله على ابتلائه ، أن خلقك في مجرة العربان ، و اعلم أن الله إذا أحب عبدا ابتلاه ، و ابتلاؤك .. أن جعلك بقلب حي في مجرة مليئة بالأموات ، تحاول كل يوم أن تتأقلم مع محيط لا يشبهك ، حتى إذا خلدت إلى نفسك مساء ، علمت فيما بينك و بينها أنك تعيد الكرة ككل يوم ، و تحاول التعايش مع محيط لا يمت إليك بصلة !
دعني أسرد عليك بعضا من بعضك ، و سترى في الأخير أني أعرفك حتى و لو لم أرك من قبلُ ...
حينما وعيت الدنيا ، وجدت نفسك شخصا يقدس الفطرة ، شخص يجد صعوبة في مداراة تبرمه إذا داهمتهُ أشياء لا تتماشى مع مبادئه ، لا يعرف للنفاق سبيلا ، أنت شخص يحس بغربة في مجتمع مليئ بالتشوهات ، يعتبر أن احترام الشخص لنفسه ، من احترامه لمبادئه ، لا يحمل وجوها في حقيبة يده يركبها بحسب المواقف التي تقابله على مدار اليوم ، شخص لا يداهن مقابل مبادئه ، شخص بكل بساطة يحاول تطبيق دينه الذي به يعتقد ، و يحترم وقته و ساعاتُ يومه .. نعم أنا أعرفك .. لأنني بكل بساطة ، أعيش ما تعيش كل يوم و أحاول التعايش فلا أجد لذلك سبيلا
...
أهلا بك في مجرة العربان البائسة ، حيث الوقت مجرد رقم على هامش مستنقع .. ههنا ، لا مكان لاحترام شيء ثمين اسمه الوقت ، هنا ، المواعيد تكون بالتراضي بين أشخاص يقدرون راحتهم الشخصية على حساب تقدير المواعيد ، يجوز هنا أن تسأل شخصا ما عن الساعة المحددة التي يمكن أن يلتقيه فيها ، فينظر إليك باستغراب و يقول لك أنك مريض بشيء اسمه الوقت ، و يقول لك بكل بساطة : يا سيدي خليها على الله ، أو في أحسن الأحوال يقول لك : سنتقابل بعد صلاة العصر مثلا !
في مجرة العربان المتخلفة ، يجوز أن تنتظر زائرا طيلة اليوم ، و يأتيك آخره ، لمجرد أنه لا يستطيع ترتيب يومه ، و يفضل راحته المرضية على أن يحدد زمانا و ميعادا معينا يأتي فيه إليك ، و المشكلة الكبرى أن مصلحته هو تكون معك ، أي أنك تكون مكلفا بقضاء حوائجه !
في مجرة العربان المتخلفة ،أن يتصل بك أحد في منتصف الليل ، و يسألك في سماجة : هل أزعجك ؟ ألم تنم بعد ؟ يحدث أن تذهب إلى مصلحة عمومية ، فتجد أغلب موظفيها في غير أماكن عملهم بحجة أو غير حجة ، و عليك أنت أن تنتظر إلى أن يأتي الموظف ، و يا ويلك لو أبديت انزعاجا أو احتجاجا ، لأنك ستسمع من الكلام الجارح و التبرم ما سيجعل يومك أسودا بدايته و باقيه !
و لا أعلم صراحة كيف لأناس يعيشون في مثل هذه الأجواء ، و يرضونها سلسبيلا لحياتهم ، كيف يقدرون على جعل اللانظام أيقونة لمجتمعاتهم ، و يعيشون في سلام نفسي هكذا بدون انزعاج ، ربما لأني أنتمي إلى تلك الفئة الشاذة التي تعتبر احترام المواعيد احتراما للنفس و للآخرين ، الذين يأخذون مواعيدهم قبل موعدها بأسابيع ، الذين يحضرون إلى مواعيدهم ، خمس دقائق قبلها ، و يذهبون إلى حال سبيلهم بعده بخمس دقائق إذا لم يحضر المواعد ، الذين يجعلون من أنفسهم ، أجندات متحركة ، و يحترمون مواعيد الإستئذان التي ألح على فرضها الإسلام ، و أصر على عدم تجاوزها من أجل مجتمع فاضل سليم .
و إني أذكر ، أني و حينما حططت الرحال في مجرة الجرمان السعيدة ، في سن العشرين ، كُنت شخصا مبرمجا ، أحترم الوقت إلى حد التقديس ، رغم أني عشت لمدة 19 سنة كاملة في مجتمع مريض ، فوجدتني في عالم فريد ، اندمجتُ فيه كما تذوب قطعة السكر في كوب ماء ...
المجتمع الألماني مجتمع صارم جدا فيما يخص احترام الوقت و المواعيد ، فعشتُ هناك أجمل سنين حياتي .. و يكفي أن أسرد عليك قصة قصيرة حدثت معي هناك لتعلم درجة الصرامة التي يطبقها الألمان في معاملاتهم .
كُنت طالبا في الجامعة ، و كانت عطلة الصيف ، فرصة للطلاب من أجل البحث عن فرص عمل يتقوون بها على مصاريف الدراسة و المعيشة هناك ... اشتريت صحيفة المدينة المتخصصة في إعلانات الوظائف ، و اتصلتُ برقم احد الإعلانات و كانت وظيفة مكلف بصندوق الأداء في أحد المحلات التجارية الكبرى ..
*هالو .. اسمي جيكوب ، و أود الحصول على موعد من أجل المقابلة للحصول على وظيفة مكلف بالصندوق ..
*حسنا ، هل أنت طالب في الجامعة ؟
*نعم سيدتي بالظبط ، أنا أتمم دراستي بجامعة المدينة
*حسنا يسعدنا استقبالك ، فالوظيفة ليست طويلة الأمد ، فقط من أجل سد فراغ السيد مارتن الذي أجرى عملية جراجية في انتظار تعافيه
*حسنا سيدتي شكرا جزيلا
*حسن ، سأعطيك موعدا ، غدا في الساعة الواحدة و سبع و ثلاثين دقيقة .. العنوان مدرج بالإعلان ، و حينما تحضر اسأل عن السيدة بيترا أرجوك !
*حسنا سيدتي اتفقنا إلى الغد !
*إلى اللقاء
في اليوم الموالي ، و كعادة الكثير من الطلاب هناك اقتنيت دراجتي الهوائية ، لأن الألمان بالمناسبة يحترمون سائقي الدراجات الهوائية ، و القانون هناك يطبق عقوبات زجرية على كل من لا يحترم أصحابها ، تصل حد الحرمان من رخصة القيادة .. كان مكتب الشركة في الربع الجنوبي من المدينة ، خرجتُ من منزلي على الساعة الواحدة زوالا ، و وصلتُ إلى مركز الشركة على الساعة الواحدة زوالا و ثلاثين دقيقة ، أسعتُ و أتممت إقفال دراجتي بقفل في أماكن مخصصة لذلك ، و صعدتُ إلى المكتب ، الذي يبعد عن المكان مسافة خمسين مترا طرقتُ الباب على الساعة الواحدة و أربعين دقيقة فُتح لي فكان الحوار التالي :
*أهلا سيدتي ، أنا على موعد مع السيدة بيترا
*هلا ذكرتني باسمك من فضلك ؟
*اسمي جاكوب مهدي ...
*أوه نعم ، لقد أعطتك السيدة بيترا موعدا على الساعة الواحدة و سبع و ثلاثين دقيقة ، أنت متأخر لثلاث دقائق .. معذرة منك سيدي ، أنا مجبرة على إعطائك موعدا آخر يوم غد .. إذا كانت الوظيفة لا تزال شاغرة .
*حسن شكرا لك ! هلا أعطيتني وعدا آخر غدا ؟
*غدا صباحا على الساعة العاشرة صباحا هل هذا يناسبك ؟
*نعم لا ضير ، و غدا سأكون قبل الموعد بخمس دقائق تجنبا لأي تأخير ، قال ضاحكا ..
*حسنا ، سيكون ذلك أفضل !
لم أتعجب مما حدث ، فقد كنت و لا زلتُ متطرفا في مسألة المواعيد و احترامها ، بل و زاد فخري أنني أنتمي ظرفيا كنت لتلك البلاد المسماة ألمانيا ، التي تنتمي لمجرة تحترم نفسها ، و تجعل من إتقان عملها عنوانا لمكانتها في العالم ، و طابعا لجودة منتوجاتها ..
و الآن و بعد مرور أكثر من عشر سنوات على دخولي إلى مجرة العربان المتخلفة مرة أخرى ، و بعد عشر سنوات قضيتها هناك ، لا يزال قلبي يجتث من جذوره لهفة و شوقا كلما تذكرتُ سنين حياتي هناك ، كيف أن كل شيء مرتبا كان ، و جميلا ، و محترما ، كيف أن الحياة هناك على برودة مناخها ، و شح عواطف أهلها في التعامل ، كانت كما اللؤلؤ المنضود ، ضمن قانون لا يستثني أحدا ، يكمله احترام تام للوقت ، كأساس للنجاح و الرقي . كان الإنسان في هذا البلد يبني الإنسان ، و كانت الأخلاق هي العنوان و الإمضاء الذي به خُتم على دستور التعامل بين المواطنين ! كان الكل يعلم ، أن الرحمة أجمل ما في الإنسان ، و أنهم يتشاركون في جل الأماني ، و هي السعادة ، و يعلمون ان السعادة لا يمكن أن تكون في بلد بدون تظافر جهود الكل ، كان الكل يرقى بالكل ، و كانت المبادئ تعتز بالمبادئ ، و كانت القيم التي تجمع بين أفراد هذا المجتمع ، تتمثل في عدل يبسط هيمنته على كل فرد من أفراد الدولة مهما كان منصبه ، و دون انتقاص من قدره ! كان هذا العدل الذي يسيطر على المجتمع ، يقيم حياة مليئة بالطمأنينة و الرضى ، بين كل فرد هناك …
طيب الله أوقاتكم !
مهدي يعقوب
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة
التعليقات
صدقت وأضف لذلك من يحب النظافه والنظام يراه من لا يحترمهما شخص مريض فى حاجه إلى علاج!!!