يتميز الإنسان عن غيره من الخلوقات ، فهو قادر على الاختيار ، وصاحب إرادة ، وله عقل يهديه إلى الخير ، ويحجزه عن الشر . و الناس فيما وهبهم الله من قدرة على الاختيار يتمايزون فيما بينهم فقليل جدا من يسمو بنفسه حتى يقترب من الملائكة المجبولين على الخير والذين لا يعرفون غيره ، ومنهم من ينحط بنفسه حتى يضارع الشياطين ، وهناك صنف ثالث من الناس وهم من يميلون تارة إلى أخلاق وأفعال الملائكة ، وتارة أخرى تستميلهم الأخلاق والأفعال الشيطانية ، وغالبية الناس هم من هذا الصنف. فالناس في عمومهم ليسوا ملائكة وليسوا شياطين ، فهم يصيبون ويخطئون .
وعلاقاتنا مع الناس في هذه الحياة لا تسير على نسق واحد، إذ لا مفر من أن تحصل زلات من طرفنا أو من طرفهم ، وهذا الزلات تفرض على العاقل الحكيم أن يتغابى أو يتغافل عنها ، حتى لا تمتليء القلوب بالمشاحنات وتتغير النفوس بين الأصدقاء والأحباب.
فمن أراد صداقة الناس فلا بد له من أن يتغافل عما يفعلون، أي يتصنع الغفلة ويجعل نفسه كأنه لم ينتبه إلى ما فعلوا،ثم يعفو ويصفح ويسامح كي تستمر علاقته بهم، وإلا فليعِشْ وحيداً كما قال بشار بن برد:
إذَا كُنْتَ فِي كُلِّ الأُمُورِ مُعَاتِباً … خَلِيلَكَ لَمْ تَلْقَ الذَِّي لاَ تُعَاتِبُهُ
فَعِشْ وَاحِدَا أَوْصِلْ أخاكَ فَإنَّهُ … مُقَارِفُ ذَنْبٍ مَرَّةً وَمُجَانِبُهْ
إذَا أنْتَ لَمْ تَشْرَبْ مِرَاراً عَلَى القَذَى … ظَمِئتَ وَأَيُّ النَّاسِ تَصْفُو مَشَارِبُهْ
والتغابي والتغافل عن الأخطاء علامة من علامات رجحان العقل وحسن الخلق ، يقال أن التغاضي تسعة أعشار العقل ، و يقال أنه تسعة أعشار حسن الخلق..
وروي عن الشافعي قوله: الكيِّس العاقل، هو الفطن المتغافل.
،وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في التغافل عن زلات الآخرين، فمثلاً
تغافل صلى الله عليه وسلم في ذكر خطأ وقعت فيه إحدى أمهات المؤمنين، فلم يذكر كل ما وقعت فيه، وكتاب الله يصور هذا التغافل في أروع صوره فيقول عز وجل: “وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ”.
ومن طرائف قصص التغافل قصة الزاهد الورع حاتم بن عنوان، فقد جاءته امرأة تسأله عن مسألة فاتفق أن خرج منها صوت فخجلت فقال لها: ارفعي صوتك، فأوهمها أنه لم يسمع السؤال ولا الصوت فسُرّت المرأة بذلك.ومن يومها لُقّب بحاتم الأصم.
وروي عن صلاح الدين الأيوبي أنه كان كثير التغافل عن ذنوب أصحابه يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يعلمه بذلك، ولا يتغير عليه.وكان جالسًا مرة وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضًا بنعلٍ فأخطأته، ووصلت إلى صلاح الدين ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه، ليتغافل عنها.
ولعله لهذا استطاع أن يكون قائداً فذّاً، ألَّف القلوب حوله لمحاربة الأعداء والنصر عليهم.
ليس الغبي بسيّد في قومه *** إنما سيّد قومه المتغابي
مواطن يحسن فيها التغابي والتغافل:
1- بين الأصدقاء والزملاء: فالمرء لابد أن يتغافل عن زلات أصدقائه وزملائه، فالناس كما أسلفنا خطاءون ، فهم ليسوا ملائكة معصومين.
2- بين الزوجين: فالزوج لابد أن يتغافل عن أخطاء زوجته أو تقصيرها في بعض شأنه ، مثل تأخر الزوجة في إعداد الطعام في الوقت المحدد، وعدم محاسبته لها، أو حتى ذكره لها، ومثل تغافل الزوجة عن تأخر الزوج عن تلبية وتأمين بعض حاجات المنزل أحياناً.
3- في تربية الأولاد : فالتغافل في تربية الأولاد أمر في غاية الأهمية ، إذ لا ينبغي للأب أو الأم تتبع سقطات الأبناء والتعسف في محاسبتهم عليها حتى لا يكتسب الأولاد عادات العناد والكذب.
وأخيرا…
هناك فرق كبير بين الغفلة والتغافل أو بين الغباء والتغابي
فالتغافل أو التغابي هو التغاضي عن بعض الأخطاء والزلات عمدا وهو ضروري في علاقات الناس مع بعضها وفي العلاقات الأسرية وتربية الأبناء كما أسلفنا.
أما الغفلة فهي الانشغال وعدم معرفة ما يقع من أخطاء وتقصير ، والشخص الغافل هو إلى الغباء أقرب
فكن متغافلا ولا تكن غافلا
وكن متغابيا ولا تكن غبيا
-
جهلان إسماعيلأبحث عن الحقيقة وأنشد الصواب في عالم اختلطت فيه أفكار البشر بهدايات السماء وظلمات الباطل بنور الحق.