مقبرة السيد(س) - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

مقبرة السيد(س)

مقبرة السيد(س)

  نشر في 25 شتنبر 2021 .

مقبرة السيد(س)

مر على مقبرته بعد أن انفض الناس من حولها , وجلس على طرف منها , واستعاد صورة الوجيه التي كانت هنا قبل دقائق , كانت السمة العامة لصور أولئك الحضور هو عدم المبالاة , فهناك من يتصنع الحزن , وهناك من يحاول إضاعة الوقت في أحاديث عابرة ربما تبدأ بالقليل عن سرد حسناته (الوهمية) إجلالا لهذه المناسبة , ثم يعرجون على شتى أنواع الحديث والحكايات التي ليس لها علاقة بمأساته الأخيرة , ربما هناك القليل منهم من يبدوا عليه اثر من حزن , ويكاد يعرفهم يقينا , فهم رفاق العمر والدرب والمواقف التي لا تحصى , أخذ عودا يابسا من طرف المقبرة وكسره , وكأنه يكسر كل ما يمكن أن يتسلل من بقايا ذاكرته عن حياته القبيحة تلك , فهو يدرك أن هناك كم من المواقف والآثام والخطايا لا يمكن أن يعتذر لعمره الرديء عنها , ولكنه يدرك أنه آثام لم يكن هو صاحب المبادرة إليها , لقد كانت مواقف رديئة ساقتها الأقدار تحت قدميه دون عناء منه أو طلب , هو لا يهتم بما يعتقده الآخرون , فحقيقة تلك المواقف لا يعلمها إلا الله وهو , فما يمكن أن يصل للآخرين وبأي طريقة كانت ليس هنا مقام التفكير بها , هو يدرك رغم كونه يجلس بجوار ما تبقى من جسده الفاني والذي سيتلاشى خلال فترة ما , أن الحقيقة القحة التي مازالت تأخذ ركنا مهم في دفتر أيامه أنه لم يسير نحو إثم ما يوما , كان قدره أشبه بالمستحيل , فكثير من المواقف تسللت إلى أقداره في لحظات ضعف إنسانية لا يقوى البشر أحيانا على مقاومتها , وأحيانا أخرى تمر غيمة من الضعف البشري أمام قصة ما فلا يفيق إلا بعد أن يتغلغل السوء بداخله , لقد كان مهزوما في كل معاركه الآثمة , لقد كان أشبه بورقة رقيقة جاورتها شعلة لهب مستعرة , فأحرقته واحترق في أتونها .

قام يجول بين المقابر القريبة , ويوجه تساؤلاته لسكانها , أو من بقي رفاته منهم , يا أصدقائي الموتى , هل استطاع أي منكم الاعتذار عن بعض ذنوبه لمن أذنب في حقهم قبل إلقاء رحاله هنا ؟

ماذا لو كانت الذنوب صغيرة ومعدودة , وربما لا يستحق الكثير من الناس أن يصلهم اعتذاراتكم .

وماذا لو كانت ذنوب عظيمة , ومتكررة , هل يجدي طلب الصفح عنها ؟

ربما فاجأكم الموت قبل أن تفكروا حتى بتقديم تلك الاعتذارات , وبصورة أخرى ماذا لو تسببت تلك الاعتذارات بالكثير من المصائب وحولت حياتكم لجحيم من التداعيات والندم ؟

هل فكرتم بأن تتركوا القرار لله تعالى يوم الحساب ؟

أليس الله هو الأقدر على العفو , أليس هو الأعلم بتلك الظروف ولحظات الضعف وربما الخداع والمكر التي صنعت بعض المواقف ؟

هل يكمن الفرج يا أصدقائي الموتى في أن الله تعالى قادر على محو ومغفرة كل الخطايا طالما ابتعدنا عن الشرك ؟

لماذا نأخذ دور الله تعالى في تقديم العفو والمغفرة من مخلوق يكون عرضة وسجين عواطفه البشرية التي لا تنظر للأمور إلا بمنظار الجزع وربما الحقد والانتقام ؟

أنا أعرف يا معشر الموتي أننا كلنا خطاؤون , وكل منكم يحمل أوزارا مختلفة , وكلنا سنتوجه ليوم الحشر بتلك الآثام والخطايا , وكل منا يأمل بالعفو والستر بين يدي الله وأمام خلائقه , وأن بعض الذنوب قد لا يغفرها البشر , وهم معذورون , فهم ربما لا يدركون ولا يريدون أن يدركوا كيفية الوقوع في الخطيئة أو ملابساتها , ولهم كل الحق , فالخطيئة وقعت في حقهم وغير ذلك هو منوط بالخاطئ .

هنا وفي هذه البقعة من الأرض لن يقدم الكلام أو المشاعر أي مخرج من آثام السنوات الطوال , ربما سلِم البعض منكم من تلك السقطات , وعاشوا حياة مليئة بالطاعات والقبول , ويختلف البعض في مقدار تلك الآثام والرزايا , ولكن رحمة الله فوق الجميع وقادرة على جمعنا تحت ظلالها يوم العرض والحساب .

عاد السيد(س) حيث مقبرته , واقترب منها وهو يتردد في النزول بداخلها وإلقاء نظرة أخيرة على ساكنها الذي ألقى رحاله فيها بعد أن قطع عمرا تخبط فيه بين الثغرات وسوء الحظ , وسوء التخطيط , وربما الكثير من الفشل , قضى عمرا تتشابه نهايات مراحله بين ندم وأمنيات أن تتاح له فرص العودة لبدايات تلك المراحل لتصحيح قراراته الغبية والتعيسة ,

لقد عجز عن فهم أقداره

فلماذا يدفع ثمن شطرٍ من عمره في كل مرة الكثير من الندم وربما الإثم ومحاولات التصحيح الأليمة والفاشلة بسبب ثواني من سوء الاختيار , لماذا يكرر قدره ذات الفجيعة عبر مراحل حياته المريرة كل مرة ؟

وقف السيد(س) وأخذ يشير لرفقاء الموت , أنتم تدركون ما أعني ولا شك , فكم منكم من دفع حياته وسعادته من أجل ثواني أخطأ فيها في لحظة عابرة ساخرة أليمة ؟

ربما ضاع العمر بأكمله أو أجزاء منه بسبب تلك الثواني , هل تدركون السبب ؟ هل تملكون الإجابة ؟

نحن لا نملك خيارا أو اختيارا عند مفترق تلك الثواني , لأننا لا نعلم نتيجة ذلك الاختيار , كما لا نعلم لماذا قدر لنا الله هذا الاختيار الذي نمتلكه ثوانٍ معدودة لنحصد نتيجته عمرا مليئا بالتعاسة والندم .

هبط السيد(س) لداخل مقبرته , وجلس أما جثمانه صامتا لبرهة من الزمن , يقلب عينيه حوله وفي تلك الأكفان , روائح غريبة وظلام ورطوبة , ووحشة لم يكن يتخيلها يوما , أزال الأربطة عن عيني جثمانه وحدق فيهما ليلحق بقية من وهم أن يسمع كلماته الأخيرة والتي لن يتجرأ بالكذب فيها , سأل السيد (س) :

أين هي تلك الثواني الأولى التي بدأت بها عمرك الرديء ؟

رد عليه جثمانه البائس :

إنها ليست مرة أولى يا صديقي , بل هي ثلاث مرات وأنت تعرفها .

رد السيد(س) :

ألم تكن حصيفا لتأخذ درسك من المرة الأولى ؟

جثمان السيد(س) :

ها أنا أمامك وأنت تعلم , أنني فشلت في كل مرة وليست المرة الأولى فقط .

السيد(س) : هل علاقتك بالله سيئة لهذه الدرجة ؟

جثمان السيد(س) : الأقدار والحياة أعقد من ذلك بكثير يا صديقي , فكم من عبد أمضى حياته في المساجد ويقضي جل وقته في تواصل دائم مع خالقه , ومع ذلك كانت حياته أسوأ من عبد أمضاها في ارتكاب كل الموبقات , هذا الميزان لا ندرك عمله وهذه القسمة ليست معلومة لنا , وحكمتها بيد الخالق وحده .

السيد(س) : وما تبريرك لسوء اختياراتك في تلك الثواني وما نتج عنها من سنين طويلة من الشقاء ؟

جثمان السيد(س) : عندما تعود بي الذاكرة لتلك اللحظات كل ما أعرفه أنني أمام خيارين , فاختار أحدهما أحيان دون تفكير عميق في نتيجة هذا الاختيار , فهو يخضع أحيانا لظروف خادعة براقة , ولكن هل أخبرك بالأعجب من هذا , أحيانا أعرف وأدرك أنه اختيار خاطئ , ولكن التفكير بمرارة خطئه ليست كالوقوع فيه ومعايشته , وربما غياب الإحساس الواقعي بقيمة الوقت الذي يستهلكه الإحساس المر بعاقبة هذا الاختيار هو شعور لحظي وليس شعور واقعي وصادق ومحسوس .

السيد(س) : هل أنت نادم على تلك الخيارات الخاطئة ونتائجها التي طويت بينها مراحل عمرك الكئيب ؟

جثمان السيد(س) : الندم يا صديقي رفيق لكل تلك المراحل , ولكن السؤال الحقيقي , هل أتحمل فعلا وزر تلك الخيارات الرديئة ؟ , أم أنه القدر الذي لا حيلة لنا أمامه سوى الخضوع ؟ .

ورغم ذلك تظل هناك بقع ضوء ساطعة تتخلل تلك المراحل لا أنكر مرورها على روحي أحيانا فتغسل بعضا من تلك الالآم أحيانا .

السيد(س) : ماذا تقول لكل من أخطأت بحقهم في حياتك الهزيلة ؟

جثمان السيد(س) : لن أقول لهم شيئا , فأنا أعتقد أنها أخطاء لا تغتفر منهم كبشر ولو حاولوا , فالله قدرها , والله يعرف ظروفها وما أوقعني فيها , والأهم الله يعلم أني لم أسعَ إليها قط , لقد كانت كقطع من الأحجار تعترض طريقي دون حول مني ولا إرادة , بل هي سهام صُوبت نحوي من حيث لا أعلم فزرعت الإثم والندم في صدري .

السيد(س) : هل تعتقد أن تلك المبررات تعطيك الرضا والطمأنينة والغفران ؟

جثمان السيد(س) : أعرف أنها قد تكون مخدر عابر فقط , ولكن يشوبها الكثير من الصدق .

السيد(س) : هل لديك ما تقوله لمن في الأعلى من الأحياء ؟

جثمان السيد(س) : عندما تكونون في دار كهذه الدار , سيذهب كل شيء إلا ما فعلتوه من خير أو شر , ستتذكرون هنا أن لحظات الإثم مهما تغلفت بالسعادة والشهوة واللذة والكسب والشهرة ستتحول هنا بين الكفن والرطوبة والضيق لمجرد لحظات ندم لا أكثر .


  • 1

   نشر في 25 شتنبر 2021 .

التعليقات

Fatma Alnoaimi منذ 3 سنة
مواجهة الموت بتفاصيله المغيبة عنا؛ تفتح أبواب التساؤلات وتتأرجح المشاعر بين رهبة ورغبة وخوف
وتبقى رحمه الله تضللنا مهما ابتعدنا.

‏"أسال الله أن يغفر لنا تقصيرنا وإسرافنا في أمرنا
اللهم إنا نرجو رحمتك وعفوك ومغفرتك."

بدون مبالغة قرأت المقال عدةمرات وفي كل مره
كأني أطل عليه من زاوية جديدة.

0
adelmoleh
فاطمة وجودك هنا وسام شرف يسابق كلماتي ليشكر هذا التواجد ,, تحياتي العميقة

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا