إفلاس النخب السياسية وأوهام الصراع - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

إفلاس النخب السياسية وأوهام الصراع

  نشر في 11 يناير 2017 .

لا يلتفت الكثيرون من المتحدثين في القضايا السياسية الراهنة الى محركاتها التاريخية والاجتماعية، على الرغم من أن تلك المحركات تمثل في الأساس الحامل الموضوعي العميق والمستمر لكل الصراعات والتناقضات السياسية والاجتماعية الحاصلة دوماً، ولكل الظواهر الشعبوية التي يمكن أن تصاحبها.

تنطلق هذه المقالة من التأكيد على أن المسألة الجوهرية في إدراك وفهم الحدث والواقع السياسي، هي بالأساس مسألة تتعلق بفهم التاريخ، من حيث لا يمكن أبداً فصله عن أي واقع حاضر، وأن الواقع الراهن لابد وأن يفهم ويدرك مرتبطاً بسياقه الزمني وبصلاته وامتداداته وجذوره التاريخية، فالتاريخ ليس إلا حلقات متصلة وأحداث ووقائع مترابطة، حتى وإن لم يرى البعض حقيقة ذلك نظراً لمحدودية رؤيتهم.

عندما تفلس النخب تطفو أزمة الهوية:

في كتابه الشهير (Ethnicity without groups) أو - الإثنية بدون مجموعات- والصادر عام (2002)، يؤكد عالم الاجتماع الأمريكي "روجرز بروبيكر" (Rogers Brubaker)، على أن إضفاء الماهية على الصراعات من خلال خلق مجموعات إثنية أو طائفية أو بأي صفة شعبوية يمكن اختزال الصراع إليها، ليس إلا آلية تلجأ إليها النخب المفلسة والقوى السياسية المتبلدة والعاجزة عن تقديم حلول حقيقة لقضايا الواقع، لجر الناس وراء أوهام وقوالب مختلقة، تحول بينهم وبين فهم آليات تشكل الصراعات وتغيراتها، وإدراك حقيقة غاياتها وتوجهاتها التي غالباً ما يتم إبرازها من خلال تلك الآليات الشعبوية وربطها بنمط أو أنماط خادمة لها من التحالفات التي تتجاوز كل القواسم المشتركة بين الكيانات والفصائل المتعددة داخل المجموعة الواحدة، لتؤطر لنماذج أخرى قاصرة وعاجزة، لا تؤدي إلا الى تبرير استمرار الصراع، وخلق الذرائع التي تجعل منه حتمية لابد منها.

يجدر بي التوكيد هنا على أن الأمر مرتبط أساساً في هذا السياق، بظاهرة الصراعات الداخلية والحروب الأهلية، أو ما يسمى اليوم في الأدبيات القانونية الدولية بــ "النزاعات المسلحة غير الدولية"، والتي غالباً ما ترتبط بحالات حادة من الانقسام والشرذمة والتفكك في النسيج الاجتماعي تحت نطاق الدولة الواحدة بشكلها السياسي أو بحدودها الجغرافية المتنازع عليها، الأمر الذي يحيل تلك الصراعات على الدوام الى نماذج تعبوية وخطابات شعبوية تجسد ظاهرياً صراعات سياسية لكنها في العمق تحمل ما يعرف بــ "إشكالية الهوية" كحامل تاريخي واجتماعي يتم توظيفه على الدوام بشكل سلبي وعدواني.

وهذا أيضاً، هو ما أكد عليه بشكل أو بآخر عالم النفس "إريك إيركسون" (Erik H. Erikson) في كتابه "أزمة الهوية"، فغالباً ما تصبح مسألة الهوية مسألة مركزية على مستوى الأفراد، لكنها على مستوى الجماعة تحتاج الى معالجة شاملة يشارك فيها الجميع. ولكن لأن هذا المطلب يتعارض أساساً مع مصالح وغايات النخب المتصارعة فإنها تتعمد تجاهله والهروب منه أو ربما العمل في اتجاه مضاد له من خلال محاولة فرض هوية جزئية لا تحظى بقبول الجميع على حساب بقية الهويات الفرعية، ليغدو الصراع ولتبدو الحرب خياراً حتمياً لا مفر منه.

بين لعنة الوفاق والمحاصصة وكارثية الحرب:

حينما تفتقد النخب السياسية الى الرؤى الشاملة والى مشروعات الحلول العادلة، وهي الحال التي تقترن أصلاً بافتقار هذه النخب الى الشجاعة الأخلاقية والإيمان بالقيم الوطنية الجامعة، فإنها تعمد الى استغلال وتوظيف بعض الأفكار والتصورات الشعبية، والى تصميم وانتاج خطابات فئوية ذات طابع تعبوي، تستهدف دائماً بساطة وسذاجة العقلية العامة للفئات المسحوقة من الشعب، لتخلق من خلال ذلك كله عمراً إضافياً جديداً لها، تماماً كما هو حال النخب والقوى السياسية والاجتماعية التي تتبنى نماذج المشروعات العرقية والسلالية أو الخطابات الطائفية والتحالفات النفعية والانتهازية.

ينتهي هذا السلوك والنهج النخبوي الى تبرير واباحة العنف والاستخدام المفرط للقوة وممارسات الإقصاء والتهميش، وهذا بدوره ما يؤدي الى ظهور كيانات مشابهة ومضادة لها في الاتجاه، كرد فعل رافض للهيمنة والعنف والتهميش ظاهرياً، ولكنها تؤدي الى البقاء في نفس المسار والنتائج على التوازي، حيث يحظى الصراع في أي نسق من هذا النوع بآفاق عديدة تدعم استمراره واطالة عمره، دون الالتفات أو الشعور بالمسؤولية من قبل تلك النخب المتصارعة الى التضاعف المطرد في حجم التكلفة والدمار والنتائج الكارثية للصراع الذي تخوضه ضد بعضها البعض، خاصة وأن طرفي الصراع يرفعان نفس الشعارات والأعلام التي تؤكد على وطنية الذات وعدوانية الآخر..(!)

هذا هو سلوك القوى التقليدية عندما تصل الى مرحلة الإفلاس والعجز عن التغير والتجدد والمواكبة والتطور، وتجد نفسها مضطرة لاختلاق معارك وهمية من أجل البقاء، إذ أنها وبسبب إفلاسها وعجزها الحاصل بل ورفضها لمبدأ التغيير تعمد إلى تبني نظريات شعبوية تلائم أغراضها، غالباً ما تكون عنصرية أو طائفية سواء في ظاهرها أو في باطنها، من خلال استعادة المحركات التاريخية والاجتماعية التي كانت فاعلة في الماضي، فالأصولية الدينية والأصولية القومية ودعواتهما ليست إلا عناوين عريضة لهذا النهج الفئوي المتطرف. ومن حيث يبدو الصراع ظاهرياً على السلطة والحكم فإنه يكون في العمق حاملاً لمكونات ومضمونات دينية وطائفية وعرقية وعنصرية، تقوم هذه النخب بتوظيفها لاكتساب الجماهيرية المؤيدة والطابع الشعبي الذي يسمح لها باختلاق أسباب ومبررات حروبها العبثية أو إطالة أمدها.

انتاج قوى سياسية جديدة كضرورة للخروج:

إن نظرة سريعة وفاحصة لمجريات الأمور في منطقتنا العربية، وبالتحديد في كل من سوريا والعراق وليبيا واليمن، تؤكد على ابتعاد المعالجات السياسية باتجاهاتها المحلية والاقليمية والدولية المختلفة وانفصالها تماماً عن النظرة العميقة التي تتبين معها حقيقة ما تم اختلاقه وحشوه عنوة في عقول الجماهير الواقعة في الأساس تحت وطأة التعبئة والتحريض والتخدير والخداع الذي تمارسه بحقها النخب المتصارعة، في سبيل صناعة وتشكيل آراء ومواقف ومشاعر واتجاهات عامة منقسمة ومتناقضة بل ومتصادمة، فما من سبيل غير هذا يمكن أن تسلكه النخب الهشة والرخوة، لتضمن بقاء الشعوب تحت رحمتها وسلطتها سواء في حال اختلافها واستمرار حروبها أو في حال الاتفاق وتقاسم السلطة بينها.

لقد جاءت ثورات الشعوب العربية قبل عدة سنوات لتؤكد حقيقة أن الأنظمة السياسية الحاكمة في المنطقة منذ عقود سواء كانت جمهورية أو ملكية.. وكذا القوى المعارضة لها سواء كانت قومية أو اسلامية، يسارية أو يمينية، قد شاخت وأفلست وانتهت مدة صلاحيتها الافتراضية، وأن الشعوب العربية أصبحت بحاجة فعلية الى قوى ونخب وأنظمة سياسية ومدنية جديدة، تحمل أفكار المرحلة الراهنة، وتتجه نحو مشروع الدولة المدنية، ودولة المواطنة المتساوية والعادلة.

كما صار مؤكداً أن القوى والأنظمة والنخب التي خلقتها ظروف الاستعمار والحرب الباردة في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين لم تعد تصلح ولن تصلح لإدارة شعوبها في عصر العولمة والمعلومات وعصر الانفتاح الانساني على كل القيم والثقافات البشرية، وهو العصر الذي يتطلب بحق إرساء قيم التسامح والتعايش واحترام حقائق التعددية والتنوع بين البشر.

ومن ثم فإن خلق وانتاج قوى سياسية جديدة أصبح مطلباً جوهرياً وحاجة حقيقية ومصيرية لشعوبنا، لتتمكن من التخلص من نفايات الحقبة الماضية وعاهاتها النخبوبة، والخروج من دائرة الصراع ومن لعنة نماذج الوفاق والمحاصصة العفنة أولاً، والخروج من حقبة الاستبداد والقمع ثانياً، والانتقال الى حقبة الدولة المدنية الحديثة، التي تكتسب عوامل قوتها ونجاحها وبقائها من كل مظاهر وسمات التعدد والتنوع الاجتماعي والفكري والسياسي، التي كانت سابقاً هي نفسها عوامل الصراع ومحركاته.

**

المراجع:

Brubaker, Roger (2002). Ethnicity without Groups. European Journal of Sociology 43 (2): 163–89.

Erikson, E. H. (1968). Identity: Youth and crisis. New York: Norton.


  • 4

   نشر في 11 يناير 2017 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا