"شبابيك" وَسْطَ الزحام - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

"شبابيك" وَسْطَ الزحام

  نشر في 22 شتنبر 2016 .

مَرَّتْ ساعتان وأنا لا أزال أقود سيارتي بعدما خَرَجْتُ مِن العمل عائدًا إلى منزلي .. الطريق الدائري اللعين مكتظٌ بالسيارات، وكُلُّ سيارةٍ تحاول جاهدةً أنْ تَكْسِبَ عدة سنتيمتراتٍ قليلةٍ إلى الأمام كُلَّ عدة ثوانٍ .. ومما زاد الطين بلةً أنَّ اليوم كان يوم أربعاء، وما أدراك ما يوم الأربعاء على الطريق الدائري بعد الظهيرة .. الزحام يجعلك تريد أنْ تترك السيارة في نهر الطريق وتركض بين السيارات كالمجانين هربًا من هذا الجحيم اليومي، ولولا إيمانٌ بالله لربما أَطْلَقْتُ رصاصةً على رأسي كي أُنهي هذه المأساة.

لم تنجحْ الأغنيات التي كنتُ أستمعُ إليها مِن خلال "فلاشتي" عَبْرَ "كاسيت" السيارة في إنهاء ضيق صدري ونفاذ صبري أو تخفيف ذلك الألم الذي بدأ يَدُّبُ في قدمي اليمنى نتيجة كثرة تنقلها بين دواستي الوقود والفرامل، بل إنَّ الأغنيات بَدَتْ في تلك اللحظات الصعبة سببًا إضافيًّا في زيادة توتري وعصبيتي .. كِدْتُ أنْ أُوْقِفَ تشغيل الأغنيات، لكن قبل أنْ يلمسَ إصبعي زر الإغلاق انطلقتْ الكمانجات مِن اللامكان لتعزف دخلة تلك الأغنية التي وَقَعْتُ في غرامها منذ أنْ استمعتُ إليها للمرة الأولى في صغري .. كانت الأغنية هي: "شبابيك" لمحمد منير.

انطلق اللحن القادم مِن ثمانينيات القرن الماضي كأنه تعويذةُ ساحرٍ جَعَلَتْنِي أتراجعُ عن قراري بإغلاق الكاسيت في اللحظة الأخيرة .. فبمجرد أنْ بَدَأَتْ الجملة اللحنية الشهيرة للكمانجات في بداية الأغنية، انتقل السحر من سماعات السيارة إلى أذناي لينساب في سلاسةٍ ليغمر جسدي كله، بل روحي نفسها، لأجدُ نَفْسِي وقد انْتَقَلْتُ فجأةً إلى عالمٍ آخرَ لا يوجد فيه سياراتٌ متلاصقةٌ ولا يوجد فيه زحامٌ ولا طريقٌ دائريٌّ.


شبابيك .. شبابيك .. الدنيا كلها شبابيك

وسهر .. والحكاية والحواديت

كلها دايرة عليك

والكلام كان كان عليك

واللي كان خايف عليك

انتهى من بين إيديك

دي عينيك .. شبابيك

والدنيا كلها .. شبابيك


في كُلِّ مرةٍ أستمعُ فيها إلى "شبابيك" أشعرُ وكأنني أستمعُ إليها للمرة الأولى .. نفس النشوة .. نفس الشعور بالانبهار .. نفس الإحساس بالسعادة التي تغمرني مهما كنت حزينًا أو مكتئبًا أو غاضبًا قبلها .. نفس السحر الذي يجعلني أنفصلُ كُليًّا عن كُلِّ ما حولي، ولستُ أبالغُ عندما أصِفُهَا بأنَّها "سِحْرٌ" لأنها – في كلِّ مرةٍ – تنجحُ في تغيير "مُودي" وحالتي النفسية إلى الأفضل.


سَرَقْت عُمري من احزاني

سَرَقْتُه لكن ما جاني

ولا حد شاف فين مكاني .. ورا الشبابيك

دي عينيك .. شبابيك

والدنيا كلها .. شبابيك


قليلةٌ تلك الأغنيات التي تجعلُكَ تعيشُ "حالةً شعوريةً" تحسُّ معها وكأنك تطيرُ فوق مستوى رؤوس الناس مِن حَوْلِك، فتنظرَ إليهم مِن عَلٍ لتدركَ كمْ هم بؤساءُ مُكَبَّلُون بالهموم، ومستسلمون لعجلة الدنيا التي يدورون معها بلا هدفٍ واضحٍ، كالبهيمة المربوطة في الساقية، غير مُنتبهين للعمر الذي تسرقه هذه الدنيا منهم يومًا بعد يومٍ وشهرًا بعد شهرٍ وعامًا بعد عامٍ، إلى أنْ يأتي يومٌ تقذفُ بهم تلك العجلة الغادرة خارج مدارها الذي تدورُ فيه منذ بدء الخليقة وحتى قيام الساعة، ليصيروا بعدها في طي النسيان مع مَن سَبَقَهم مِمَّنْ قُذِفَ بهم خارجها.


غَيَّرْت ياما كتير .. ياما كتير احوالي

وأنا كنت عاشق .. عاشق وكان يحلالي

أحب بس يكون حلالي ورا الشبابيك

دي عينيك .. شبابيك

والدنيا كلها .. شبابيك


قليلةٌ ومعدودةٌ تلك الأغنيات التي يكونُ لها أبعادٌ في الفراغ وكِيانٌ مُجَسَّمٍ يُمْكِنُكَ أنْ تلمسَه وتتفاعلَ معه وتشعرَ بوجوده مِن حَوْلِكَ وتأثيره على مشاعرك .. تشعرَ وكأنك فراشةٌ تطيرُ بِحُرِّيَّةٍ .. تَتَنَقَّلَ بين بستان الكلمات وتَحُطَّ على الزهور المغلقة لكي تجعَلَها تَتَفَتَّحَ تحت تأثير الأنغام الساحرة، لتُكَوِّنَ لوحةً بديعةً مُلَوَّنةً تندمج فيها بكل كِيانك، وتذوب عشقًا في كل تفصيلةٍ داخل هذه اللوحة الرائعة.


أنا بِعْت الدموع .. الدموع والعمر

طَرَحِتْ جنايني في الربيع .. في الربيع الصبر

وقُلْت أنا عاشق .. سقوني كتير المر ورا الشبابيك

دي عينيك .. شبابيك

والدنيا كلها .. شبابيك


عندما استمعتُ إلى "شبابيك" للمرة الأولى في حياتي – ربما عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري – لَمْ أَكُنْ أعرفُ أنَّ مؤلف كلماتها فنانٌ تشكيليٌّ اسمه "مجدي نجيب" .. فنانٌ موهوبٌ يجيدُ الرسم بالكلمات في أغنياته تمامًا كإجادته الرسم بالألوان في لوحاته.

لَمْ أَكُنْ أعرفُ أنَّ "مجدي نجيب" هو أيضًا مؤلف كلمات أغنياتٍ أخرى لـ "محمد منير"، مثل: "حواديت"، و"من أول لمسة"، و"يا زماني"، و"بِنسَهَّر الأوتار"، و"ممكن".

لَمْ أَكُنْ أعرفُ أنَّهُ كتبَ أيضًا كلمات أغنياتٍ أخرى شهيرةٍ لعَددٍ مِن المطربين القدامى، مثل: "جالي وطلب السماح" لصباح، و"بَوْعِدَك" لسعاد محمد، و"كامل الأوصاف" لعبد الحليم حافظ، و"العيون الكواحل" لفايزة أحمد، و"قولوا لعين الشمس" لشادية.

لَمْ أَكُنْ أعرفُ أنه قد كتبَ كلمات أغنية "شبابيك" أثناء حَبْسِهِ في المعتقل، قَبْلَ أنْ يُلَحِّنَها العبقري "أحمد منيب" ثم يوزعها "يحيى خليل، لكي يغنيها "محمد منير" في ألبومه الثالث الذي حَمَلَ نفس اسم الأغنية، والذي صدر في نفس عام مولدي – 1981 – ليصير عُمْرُ "شبابيك" من عُمْرِي.


شبابيك .. شبابيك .. الدنيا كلها شبابيك

وسهر .. والحكاية والحواديت

كلها دايرة عليك

والكلام كان كان عليك

واللي كان خايف عليك

انتهى من بين إيديك

دي عينيك .. شبابيك

والدنيا كلها .. شبابيك


قليلةٌ ومعدودةٌ – بل ونادرةٌ – تلك الأغنيات التي تُعِيد تكرار الاستماع إليها أكثر مِن مرةٍ بعد انتهائها دون أنْ تشعرَ بِذَرَّةٍ مِن الملل، حتى لو كُنتَ تقود سيارتك منذ أكثر مِن ساعتين على الطريق الدائري اللعين يوم الأربعاء مُجاهدًا أنْ تَكْسِبَ عدة سنتيمتراتٍ للأمام .. هكذا ضَغَطْتُ على زر التكرار التلقائي للأغنية في كاسيت السيارة كي تُعَادُ الأغنية مرةً بعد الأخرى فور انتهائها .. ربما لأكثر مِن عشر مراتٍ رُحْتُ أُعِيدُ الاستماع في نشوةٍ وسعادةٍ إلى "شبابيك" نجيب ومنيب ومنير وخليل .. مِن الغريب أنني لَمْ أَعُدْ أشعرُ بالألم الذي في قدمي اليمنى التي لا زالت تَتَنَقَّل بين دواستي الوقود والفرامل، بينما يداي على المِقْوَد تقودُ لا شعوريًّا سيارةً أنْهَكَهَا زحامٌ لا يبدو في الأفق أنه سينتهي قريبًا.


  • 4

   نشر في 22 شتنبر 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا