تأجيل البوح و النص الموازي في قصيدة ( جندي) - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

تأجيل البوح و النص الموازي في قصيدة ( جندي)

  نشر في 29 نونبر 2016 .


حينما نقرأ قصيدة جندي للدكتور أنور غني الموسوي سنرى و بوضوح امرا مهما و هو ان بداية النص كرسالة و فكرة ذهنية ليست هي بدايته البصرية الشكلية . و من المهم ايراد القصيدة اولا .

( جندي )

أيتها النهارات ، أيتها الطيور الحالمة، إنتظري انتظري ، فهذا قلبي لا زال يتعثّر فوق السفوح، قدماه من ثلج مرّ، و عيناه بقايا صوت نحاسي يبحث عن شيء من النسيم. لقد بحثتُ طويلاً في كل مكان تصل اليه أصابعي القصيرة ، بحثتُ في لوني الرمادي، و بحثتُ أيضا في عروقي الخفية فلم أجد صورةً لجندي. ربما أنني ملوث حدّ العمى. لا بدّ ان أعثر على نقائي لكي أرى صورة ذلك الجندي الذي أعرفه، الذي يتوق لموت حرّ. انني آسف الان فعلا ، لأنني لم أتمكن من ذلك ، فأنا أعلم انّ للحياة ابتسامة لا يمكن رؤيتها الا بهذا الموت. أنا أقف هنا كلّ يوم كطائر الجزر البعيدة. أقف غريباً أصغي لذلك الصوت؛ صوت قلبي. أجل أنا اقف هنا أنتظر عودة روحي النقية؛ كلّ يوم عسى أن أموت كجندي.

هذا النص يطرح سؤالا مهما جدا ، و ربما غير مسبوق وهو انه متى يبدأ النص كوجود ذهني ؟ في هذا النص مفارقة واضحة بين التشكل البصري للكلام و التشكل الذهني له ، حيث ان الجملة الاولى (أيتها النهارات ، أيتها الطيور الحالمة، إنتظري انتظري ، فهذا قلبي لا زال يتعثّر فوق السفوح، قدماه من ثلج مرّ، و عيناه بقايا صوت نحاسي يبحث عن شيء من النسيم ) لا يمكن التوصّل الى المراد منها الا بقراءة باقي النص ، و من ثم يتبين انها شرح للسبب الذي يريد ان يموت فيه الشاعر كجندي . كما ان الجملة الثانية يتأجل البوح فيها الى نهايتها حيث يقول المؤلف (لقد بحثتُ طويلاً في كل مكان تصل اليه أصابعي القصيرة ، بحثتُ في لوني الرمادي، و بحثتُ أيضا في عروقي الخفية فلم أجد صورةً لجندي. ) و تأجيل البوح هذا في الحقيقة يعني تأخر البداية الذهنية للنص حتى اكتمال البوح وهذا يعني انطلاقه من الوحدة المعنوية المركزية و التي يمكن ان نسميها ( الوحدة الاستنادية ) و التي تتمثل هنا بعبارة (فلم أجد صورةً لجندي. ) . فالنص في الذهن لا يبدأ من بدايته الشكلية و انما يبدأ من منتصفه من هذه العبارة الاستنادية المركزية .و بعد ان بين الشاعر سبب رغبته بان يموت كجندي ، عاد مستذكرا ما يفعله لاجل ان يصل الى تلك الغاية ، اي انه بين النتيجة اولا ثم بين السبب ثم بين ما يفعله لاجل تحقيق السبب اي سبب السبب . فما حصل هو ان المؤلف بين النتيجة الاخيرة ثم بين سببها ثم بين المسبب لهذا السبب ، بمعنى اخر انه قلب النص رأسا على عقب ، فحقيقة البناء المنطقي للكلام هنا انه يبدأ من نهاية النص ثم ينتهي الى بدايته، و اذا ما قلنا ان الرسالة و التصور و المعنى هو وجود و تشكل ذهني للنص ، فان ( النص الذهني ) هنا يبدأ من نهاية ( النص الشكلي ) البصري و ينتهي في بدايته .

و اذا ما اتفقنا من ان النص الشكلي كموصل للرسالة هو حامل و وسيط وان الغاية التوصيلية تكمن في ( النص الذهني ) يتبين ان النص الحقيقي هو النص الذهني ، و انه قد بدأ هنا على اقل تقدير من منتصف النص الشكلي . و تمايز النص الذهني عن النص الكتابي قد يكون واضحا كما هنا و قد يكون خفيا ، الا ان وجود هذه الثنائية و لزومها امر لا تنفك منه اية كتابة حتى لو لم تكن أدبية و هذه الاشارة لم اطلع عليها في حدود قراءتي .

ان الاسلوب الذي مكّن المؤلف من هذه الحالة – اي مفارقة النص الذهني للنص الشكلي- هو امران واضحان الاول تأجيل البوح وهذا كان مسؤلا عن تأجيل البداية في الجملة الثانية و الاخيرة ، و الاسلوب الثاني هو ( الرمزية التجريدية ) ، وهذا ظاهر في الجملة الاولى التي بدأ بها النص ( الشكلي ) حيث ان من الواضح الابتعاد المعنوي و المجالي و الكلامي لهذه الجملة بما رمزت اليه و ما شرحته عن غيرها ، الا ان المؤلف اعتمد على تقارب شعوري و احساسي بين النهارات و الطيور الحالمة ، و بين الانتظار ، و بين القصور في السعي ، و بين المعاني التي يحملها الموت السعيد للجندي اي الشهادة ، و انه سيحتاج الى تجاوز القصور و انه سينتقل الى عالم من النور و السعادة مقاربٍ احساسيا للنهارات و الطيور الحالمة . فاعتمد المؤلف على هذا التقابل الشعور و الاحساسي و حمّل تلك المفردات و تلك العبارات ثقلا شعوريا و احساسيا غير مرتكز كثيرا على الترابط المعنوي ، فالمفردات متقاربة احساسيا و شعوريا الا انها غير متقاربة معنويا كما هو ظاهر ، وهذه هي الرمزية التجريدية .

و انا اذا ما نظرنا الى نفعية و انتاجية الكلام و الكتابة و انه لا بد من تحقق فائدة معنوية لكل كلام ، فان ذلك يعني في حال تأجيل البوح يتحقق نص او نصوص مؤقتة متأرجحة قبل تحقق البوح الكامل او الشرح الكامل ، و عادة ما تكون النصوص المؤقتة و المتأرجحة قصيرة بسبب تحقق البيان بفترة قصيرة من وجودها الرمزي و التوهمي ، و اما اذا ما تمكن المؤلف من خلق نص مؤقت متأرجح كبير يتأجيل البوح و باللغة التجريدية فانه سينتج عن ذلك نص ذهني طويل مؤقت يختلف عن النص الذهني النهائي ، هذا النص المؤقت الذي له شخصيته و وجوده يوازي النص النهائي في عالم الافادة و الفهم ، و يمكن ان نسميه ( النص الموازي ) وهو من الاساليب و المعادلات التعبيرية الشعرية التي تحقق الابهار الفكري عند القارئ لما يسببه من انزياح عن التوصيلية المنطقية و لما يحققه من صدمة انكشاف حالة التوهيم المتعمدة .



   نشر في 29 نونبر 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا