وانا طالب في معهد الصحافة في بداية الثمانينات من القرن الماضي، كنت أنشط مع الطلبة الوطنين الديمقراطيين (مجموعة الأداب والعلوم). لم يكن مسمّى الوطنيين الديمقراطيين بالجامعة (الوطج) قد ظهر بعد... فقد تمّ ذلك في 1984. ولا يعني تزامن الأمر مع التحاق شكري بلعيد بالجامعة، أنّه هو من كان وراء ظهور هذا المسمّى لأنّ نقاشات سابقة لالتحاق شكري بلعيد بالجامعة، وذات علاقة بالمسألة التنظيمية قد مهّدت للأمر.
لم أكن من القادة أو الفاعلين في مجرى الأحداث والنقاشات السياسية. كنت مجرّد وُطيّد لا وزن له داخل الخط ولكنّني كنت لا أتردّد في التغريد خارج السرب كلّما كان لي من الاسباب ما اعتبره وجيها... والحقيقة أنّ تلك التنطّعات لم تكن تحرّكها ثقافة سياسية وتمكّن إيديولوجي بقدر ما كانت ناتجة عن منزع استقلالي نشأت عليه وعن تحفظي على بعض الممارسات...
أعلمني أحد رفاق الخط بالمعهد أنّه على كلّ رفيق تخصيص دينار من منحته الجامعية التي تبلغ 30 دينارا في الشهر لتمويل دراسة رفيقين تلميذين بمعهد ثانوي خاص كانا قد أُطْرِدا من معهد الوردية لتزعّمهما التحركات التلمذية...
تعرّفت في وقت لاحق على الرفيقين التلميذين اللذين كان يحضران إلى المعهد وإلى المبيت الطالبي بمدرسة المعلّمين للتعليم التقني enset بالوردية. لمن لم يحدس من هما أقول أنّني أتحدّث عن شكري بلعيد وكمال الدريدي (كمال كمبة).
كان شكري ذو السابعة عشر سنة، على صغر سنه مثقفا لا يملّ النقاش، ذا كاريزما لافتة وقدرة فائقة على الخطابة. ومن النوادر التي أذكرها في هذا السياق أنّ الخطّ كلّف أحد مناضليه وهو المنجي الحنّاشي (شُهِرَ منجي الزّعيم) من باجة بالتأطير النظري للرّفيق التلميذ شكري بلعيد من خلال استقباله في إحدى غرف المبيت الجامعي خلال عطلة الشتاء بعدما لاحظ قادة الخط نزعة تروتسكية في خطاب شكري بلعيد، فكانت النتيجة بعد عودتنا إثر نهاية العطلة أنّ شكري بلعيد أطّر منجي الزعيم الذي صار يدافع عن الأطروحات التي يتبنّاها شكري.
التحق شكري بلعيد بكلية العلوم في 1983- 1984 وكانت شهرته سابقة له هناك وزعامته للخط في جهة المنار أمرا مفروغا منه. وما هي إلاّ سنة أو اثنتين حتى تمّ تجنيده في رجيم معتوق رفقة ثلة من رفاقه أذكر منهم سنان العزابي وكمال قرار ومحسن مرزوق وصائب التليلي وآخرون...
في الأثناء، سكنت مع يسير السحيمي وعبد الحميد المروعي ورفيق الغضاب في ستوديو بضاحية الزهراء، وكان لنا رفاق آخرون جيرانا لنا يسكنون فيلا فخمة أذكر منهم مهندسان هما مسعود بن ساسي وسالم حميدة... في هذه البيئة، تعرّفت على رفاق مرّوا بالجامعة وغادروها قبل التحاقي بها. كانوا يزورون يسير ودّا واحتراما أو لاستشارته في بعض المسائل النقابية والفكرية. أذكر منهم رزوقة من سليانة ومحمّد الهادي مسعود من المكنين ومنجي البوعزيزي من سيدي بوزيد ومحمّد السوسي من تستور وصلاح الوريمي من جرجيس. وكان الطالب الوحيد الذي يزورنا هو شكري بلعيد.
صادف مرة ان عدت الى البيت من العمل فوجدت شكري واقفا إلى المكتبة على وشك الانتهاء من انتقاء روايات لحنا مينا وغسان كنفاني وإبراهيم جبرا إبراهيم وسحر خليفة وسهيل إدريس وغابريال غارسيا ماركيز. قال لي "هذه الكتب ستوزّع على الرفاق الطلبة وغير الطلبة للمطالعة". لم يترك لي شكري خيارا غير القبول على مضض. وسريعا ما أقنعت نفسي بأنّها إعارة مؤقتة ستعود بعدها كتبي إلى مكانها في مكتبتي. لكنّ كتبي طوّحت بين أيدي الرفاق في جهات تونس كلّها. وكنت أواسي نفسي بفكرة كان معلّمي يسير السحيمي قد ساقها في حديث عابر : "الكتاب جُعــِلَ ليسافر. ما جدوى أن تملك كتابا كنت قد قرأته وتأسره في مكتبتك لتفاخر به" الكتاب كالعصفور حياته ليست في القفص بل في تحليقه في الجو". ويبدو أنّ يسير كان يطبّق هذه الفلسفة، يهدي ما يشتريه من كتب بعد أن يقرأها ولا يسعى إلى استعادتها أبدا. وحصل أن استعار مني كتبا قرأها ومرّرها لآخرين كي يقرؤوها... ولم أجرؤ على سؤاله عن مصيرها...
بعد سنين صادفت بعضا من كتبي التي أخذها الرّفيق شكري بلعيد في مسقط رأسي أمّ العرائس عند رفيق قال لي أنّها وصلته من الرّفيق المرحوم حبيب بالليل الذي كان يعمل في المجمّع الكيميائي بقابس. كانت كتبي في حالة جيّدة وتعرّفت عليها من توقيعي. تعرّفت أيضا عند نفس الرفيق على بعض كتب من المكتبة المشتركة لشكري بلعيد ومحمّد السوسي وسعاد محمود. فقد كانوا ثلاثتهم يدوّنون على أغلفة كتبهم من الداخل عبارة "شمس " التي تشير إلى الحرف الأوّل من اسم كلّ منهم.
كان شكري يجلس معنا بعد إنهاء الخدمة العسكرية وصعوده في المكتب التنفيذي للاتحاد العام لطلبة تونس إثر المؤتمر 18 الخارق للعادة، في مقهى الروتوندة قبل أن يقرّر بوليس بن علي تطهيرها من المثقفين والنقابيين واليساريين بأن أطلق عليهم جحافل المومسات الرّخيصات وقوّاديهم. كان شكري يحب تلك المجالس حيث يجد من ينصت إلى قصائده المطوّلة ذات النفس المظفري (نسبة إلى مظفر نواب) ويناقشه فيها... وكان قد انقطع عن الجامعة. وبدأ يفكّر في الهجرة إلى العراق... كان جواز سفره محتجزا لدى وزارة الداخلية، فساعده على استرجاعه كمال بوعجيلة الذي كان موظفا باتحاد الكتّاب التونسيين مكلّفا بسكريتارية تحرير مجلّة المسار، حيث طلب من الميداني بن صالح رئيس الاتحاد آنذاك أن يتدخّل لصالح شكري...
سافر شكري في بداية التسعينات إلى العراق أين حصل على الإجازة في القانون بامتياز ومن ثمّة عاد إلى تونس ليقضي سنة أو سنتين قبل أن يشدّ الرحال إلى فرنسا حيث حصل على شهادة الدراسات المعمّقة في القانون من جامعة باريس الثامنة... صادفته مرّة أثناء زيارته إلى تونس، وكان قد أنهى دراسته بنجاح في فرنسا فنصحته بالبقاء في فرنسا وعدم العودة إلى تونس بعدما جرّبت أنا نفسي ذلك وندمت. اكتفــى بابتسامة هادئة في وجهي بدت لي لا تخلو من العتاب. وبعدها عاد والتحق بسلك المحاماة وصار صوته مسموعا في مجال الحقوق والحريات العامّة.
بعد 14 جانفي بفترة قصيرة، وكنت وقتها قد ارتبطت بصداقة قوية بالمرحوم سنان العزّابي، نتابع التطورات سويا ونعلّق عليها، سألني سنان إلى متى سنظل مكتفيين بوضع المتفرّج نتابع ما يحصل ولا نشارك في صنع الأحداث... وأضاف أنّ أصداء بلغته عن سعي شكري بلعيد إلى تأسيس تنظيم حزبي يجمع أطياف الوطنيين الديمقراطيين... لم أبد حماسا للمشاركة الفاعلة وقلت لسنان أنّني أفضّل التريّث لاستجلاء المشهد أكثر أمام حالة الغليان الفكري والسياسي التي يصعب علي تحديد موقع لي فيها آنذاك... وكان أن انخرط سنان في حراك تأسيس الحزب دون أن يؤثّر بقائي على الحياد في علاقتنا ببعض...
كنت أصادف شكري أحيانا وغالبا ما يكون سنان معي، وكنت ألحظ في عينيه نفس نظرة العتاب الممزوج بالصبر... لم يفاتحني يوما في موضوع التحاقي بالحزب... هل تحادث في الأمر مع سنان؟ ربّما...
آخر مرّة رأيته فيها كانت قبل اغتياله بأيام قليلة. كان ذلك ذات عشية أمام مكتبة ألف ورقة بضاحية المرسى قبالة المركز التجاري الزفير، وكنت كالعادة مع سنان... ذات الابتسامة بذات الطعم، مع تعليق خاطف ولبق على دوام عشرتنا أنا وسنان، ثم حدّثنا عن موقف حصل له في جهة داخلية منذ يومين أو ثلاثة حيث حوصر في مقر اجتماع عام من طرف السلفيين التكفيريين المسلّحين بالهراوات والسلاسل وكانت حياته في خطر... قال في معرض ما قال، أن شقيقه أخبره بوجود تهديدات جدية لحياته وأنّه لا خيار له سوى الذهاب في طريقه كلّفه ذلك ما كلّفه...
كان سنان في صراع بطولي مع مرض السرطان الذي كنت أعرف أنّه سيقتله لا محالة، لأنّ حمّادي النموشي (الديناصور) أسرّ لي يوم اكتشاف المرض لدى عشيري أنّ هذا الصنف لا يرحم... بعدما انصرف شكري، ظلّ سنان ينظر إليه وهو يبتعد ثمّ قال لي: تعرف يا عشيري، هذا الرجل من طينة نادرة، تخيّل أنّه لا يملك ما يدفع به كراء مقرّ الحزب ويزورني في البيت ليسلّمني ظرفا فيه ألف وخمسمائة دينار... جعلني كلام سنان ألتفت ناحية شكري الذي ابتعد وكانت تلك آخر مرّة رأيته فيها...