ماذا يعني أن تطير - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

ماذا يعني أن تطير

  نشر في 18 نونبر 2019 .

انطلقت علاقتتي بالطائرات سنة 1994. كنت وقتها قد تجاوزت الثلاثين من عمري ما جعلني افقد الامل نهائيا في ركوب الطائرة واقنع نفسي بانها لم تصنع لامثالي، وأنا المتعوّد على إقناع نفسي بأنّني مستثى من التمتّع ببعض الأشياء كالبحر والثلج والسرك، إلخ.

بعد ذلك، تعددت رحلاتي الجوية حتى صرت غير قادر على عدها. عرفت مطارات عديدة عبر العالم باجوائها الساحرة ومطاعمها ومقاهيها واسواقها وشرطتها وجمارجها وبمسافريها المتنوعين النائمين على الارضيات... في خلال ذلك، كنت اسمع عن رحلات تاخرت لسبب او اخر، دون أن أجد سببا وجيها لتذمّر الناس من تلك التأخيرات. واتمنى لو كنت مكانهم. فالرحلة الجوية عندي مغامرة مثيرة ومفتوحة على المفاجئ والمجهول بما في ذلك اختطاف الطائرة وهبوطها الاضطراري وتاخرها ومرورها بمنطقة تقلبات جوية وعدم وصول الحقائب الى غير ذلك من البهارات التي تعطي الرحلة مذاقا خاصا وتجعل منها ذكرى لا تنسى...

لكنني للاسف وطوال رحلاتي، حتى مع أسوأ شركات الطيران سمعة، لم يحالفني الحظ في تاخير يضطر الشركة الى تمكيني من إقامة في فندق المطار مثلا... أتخيّل كيف سأقضي فترة الانتظار في اكتشاف تفاصيل المطار وقراءة الصحف مترشّفا كأسا وتدوين بعض الخواطر والتكوّر على كرسي بقاعة الانتظار والتعرّف على مسافرين آسيويين أو من أمريكا الجنوبية...

شاهدت مرّة شريطا تسجيليا عن مهمّش عاش حياته في مطار إحدى المدن الأوروبية، حتى خبر تفاصيله وثناياه... ما شدّني في هذا الشريط هو ثنائية الثبات والتغيّر، الجمود والحركة... وأنت تشاهد الشريط لا تعرف إن كنت أمام واقع من الرتابة أم من التجدّد، أمام شخص حرّ أم سجين... شدّني أيضا نجاح ساكن المطار في فرض نفسه رغم مطاردات موظّفي أمن المطار... كان قليل الظهور في الفضاءات العامّة المعتادة مثل بهو استقبال المغادرين والقادمين، والمطاعم والمقاهي، لأنّه يعيش في الفضاءات الخلفية كأقبية مواقف السيارات المعتّمة ومناطق شحن البضائع ومحطّات التزويد بالوقود.... شاهدناه يحوم حول مدارج هبوط الطائرات وإقلاعها من وراء سياج حديدي مرتفع ومشبك يحول دون الدخول إليها... ركّزت الكاميرا كثيرا على عينيه الحالمتين وهو يتأمّل الطائرات في نزولها وإقلاعها... قال في شيء من الأسى دون أن ينظر باتجاه الكاميرا، "رغم أنّني أعتبر هذا المكان بيتي إلاّ أنّني ممنوع من دخول بعض المناطق منه... شاهدناه أيضا يبول على السياج ويضحك في هستيريا...

ظلّت رحلاتي تسير دائما بشكل عادي ورتيب... مضيفات يتصنعن الابتسامة، وأطفال يبكون داخل الطائرة طوال الرحلة، ومسافرون مقرفون يبالغون في شرب الكحول، ومقعد دائم في الوسط يجعلك تتردّد ألف مرّة قبل الذهاب إلى الحمّام حتى لا تزعج من إلى يمينك أو يسارك... لم يصادف أن تهت في مطار ولم اضيّع رحلة واحدة ولم تتاخر لي حقيبة ولم يغفر لي موظف تسجيل واحد كيلوغراما زائدا في الحمولة ولم اجلس الى جانب فاتنة... سئمت هذه الرحلات المملة الرتيبة العادية. كل رحلة يخيب الله دعواتي كي يدس لي مفاجاة تجعل من رحلتي حدثا غير عادي... اتامل وجوه المسافرين متسائلا اما من أُرَيْهِبي فيكم؟ اما من مجنون؟ اما من حبلى ستضع مولودها بيننا؟ انظر الى قائد الطائرة متوسلا اياه في سري ان يفاجئنا بحركة بهلوانية استعراضية ولكنه لا يحدس شيئا مما يدور في ذهني ويظل يبتسم للركاب مرحبا واعدا اياهم برحلة هادئة ومريحة...


  • 4

   نشر في 18 نونبر 2019 .

التعليقات

§§§§ منذ 4 سنة
ضحكت من كل قلبي سيد جلال....لأول مرة أكتشف من يريد أن تقع به مصيبة في السماء...ههه ...
أحمد الله و أشكره أن كل رحلة تمر بخير ...دون أعطاب و دون مشاكل... لكنك فعلا جعلت من مقالك خاطرة ممتعة و رؤية جديدة لعالم الطائرات...
تحياتي لك
3
جلال الرويسي
وهل صدّقتني في ما كتبت؟؟ أنا من أكثر الخوّافين من ركوب الطائرة... شكرا على التفاعل... تحياتي
§§§§
أكثر مما صدقتك...بل فكرت بجدية في الأمر...لولا يحدث شيء يجعل من الرحلة مغامرة ...الشكر موصول لك أستاذ جلال

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا