نظرة كاذبة ..
سائراً بين البشر ببساطتك التي عاهدتك الحياة عليها , لا تكترث لما يُقال عنك ولا تلتفت حتى لما يراه البشر فيك , ولكنك وبرغم بساطتك هذه أنت تحوي على أكثر السُبل تعقيداً , سبيل يأخذك نحو العاطفة والتودد , وبها تتغافل عن مسؤليات الحياة وتبدأ بشق طريق مختلف عن ذلك الطريق الذي يُهدد إستقرار راحة بالك , تجده الأفضل على الإطلاق , تشعر خلاله أنك قد خُلقت من جديد , بشخصية جديدة ومشاعر أخرى لم تكن تحسب لها حساب , تُجبرك على الشعور بقيمة الحياة , تدفعك إلى تذوق نسمات الحب والرحمة والمودة , ولن تتركك إلا بعد أن تُبدلك لأسعد البشر بعد أن كنت أتعسهم وذلك بين ليلة وضُحاها ! , أما سبيلك الأخر , هو سبيل تتحكم فيه أفكارك , لا مجال فيه لعاطفة , العاطفة فيه كأنما وجدت العسل في باطن المرارة ! , وإن وجدت ذلك الخليط فتتوقع أن يكون المذاق مراً أم حلواً ؟! , ستضيع في حيرة السؤال وتضطرب في طريقك للإجابة , لذلك فهو إفتراض ليس له أساس , الفكر فارض نفسه بكل ما فيه من أفكار ومنطق وتعقيدات عقلية وفلسفية , تساؤلات تفرض نفسها عليك مهما كان الزمان والمكان , مهما كان الوضع والهيئة , التأمل هو حجر أساس هذا الطريق , مرصوف بالتحليلات كانت منطقية أو لا تمت للحقيقة بأي صلة , الفكرة كلها تتمحور حول وجود الفكرة ذاتها , فالفكرة هنا هي أصل الوجود ودونها لن يستمر هذا الطريق ولن تصل لنهاية له , أرأيت الفارق بين السبيلين ؟ ..
سبيل العاطفة التي تتخلل ضلوعك وتنشر نبضاتها فيتشبع بها دمائك وتصير جزءاً لا يتجزأ من وجودك , كأنها الروح وأنت بلاها مجرد جسد محسوب على البشرية ويشغل حيزاً من الفراغ وفقط , أما السبيل الأخر , وهو الفكر الذي يمحي كل خطواتك في سبيلك الأول , الذي أقسم على الإطاحة بما تبقى لك من إتزان , من هدوء نفسي , وفيما يطرحه تجد أن الوضع داخلك يتغير , زلزال عنيف يقضي على مساكن راحتك , بركان مُدمر يسحق ما يقابله من صفاء نفسي , وأنت البشري الذي لا حول لك ولا قوة ماذا تتوقع أن يكون رد فعلك حينها ؟! .. أنت برغم بساطة هيئتك تلك , نموذج لصراع أبدي لن يهدأ أو يخف صداه , تعتقد أنك بسيط , ملابسك بسيطة , اسلوب حياتك لا يعرف سوى ذلك , تعتقد ذلك ولكنك قمة الشقاء , ولن تجد أحد يُعاني ما تُعانيه أنت حتى وإن لم تكن تُدرك ذلك , كيف ذلك ؟ , ببساطة شديدة كبساطتك التي تحسبها : أنت الوعاء الذي يحوي داخله كلا السبيلين ! ..
أنت المساحة التي ينطلق فيها كل سبيل بكل حرية , عبر أوردتك تجد العاطفة تسبح كأنها السباح الماهر الذي قضى حياته في ذلك السائل اللزج , وعلى الجهة المُقابلة تجد السبيل الأخر يستنشق نسمات الإبداع , يتهافت على الأفكار التي تستجمع قواها من أجل الإرتقاء بك إلى مواضع أصحاء الفكر , ولكنك في ذلك السبيل تجد نفسك من أشقياء النفوس ! , شقي لما تبعثه فيك تلك الأفكار من أثار جانبية مُهلكة لك , مذاقها مُميت , يصعب عليك إرتشافها حتى النهاية بنفس راضية , ولكنك تُصارع من أجل ذلك لأنك تعلم جيداً ان برغم مرارتها ففيها دواؤك , أنت المساحة التي يتبارى فيها الفريقان , فريق القلب وفريق العقل , القلب الذي يجد هذه المُبارزة أمراً قاسياً عليه , فهل يُعقل أن تتقاتل الرحمة يوماً وتنشر معاني الشر في عالمنا وتُبدل قناع الخير كما يفعل أبطال الأكشن في آخر لحظات الفيلم ويُهشموا على رؤوسنا الطاولة بعد أن وثقنا بهم طوال ساعتين المشاهدة ؟! , سيناريو غير مُحبب لنا بالمرة , هي كذلك , تبغض التقاتل أشد البغض , ولكن العقل له رأي آخر , فهو يُحلل الموقف تحليلاً دقيقاً , ويضع إحتمالات الفوز والخسارة , والنتائج المترتبة على خسارته أو فوزه , ويحسم تلك النتائج بأن يضع لها حلول جديدة تُرضي جميع الأطراف , وبعدها يبدأ بالتنفيذ , فهو يرى بعد هذا التحليل الدقيق أن دون تلك المُبارزة لن يصل أي طرف لنهاية في صراعه مع الآخر ..
سيظل الطرفين مُقيدين بصراع أبدي لن يصل لنتيجة سوى الدمار الذي يلحق بالبشري المسكين الذي يُكبل داخل سجنه هذا , نعم لقد توصل لحل , وبهذا الحل الذي لن تستسيغه العاطفة توضع أنت أيها البشري في المأزق الجارف لإتزانك , فما لك إختيار في كل هذا , حرية إختيارك مسلوبة منك دون إرادتك , إن اخترت فوز العاطفة على الفكر فستجد الفكر يفيض عليك بتساؤلاته المزعجة : لمَ ؟ , ماذا وجدت فيها أفضل مني لتختارها ؟ , هل أرغمتك قوى الطبيعة على ذلك ؟ , و و و !! , لن يصمت لحظة مثلما يفعل دائماً , بينما ستنشر فيك العاطفة فيضاناً من السعادة كرد لجميلك هذا , شكر بسيط لك على إختيارك لها وجعلها تترأس القمة , ولكن هل ستجد السعادة هذه لها قيمة إن كان سبيلك الأخر مُشتت بإزدحام أفكار وتساؤلات قادرة على سلب كل ذرة من ذرات تلك السعادة الممنوحة لك ؟ , بلا أي جدوى , وستجد أنك قد عدت من جديد لنقطة الصفر , وإن حكمت عقلك في الإختيار واخترت الفكر , فستجده أيضاً يغمرك تساؤلاته , ولكنها الآن بشكل عكسي : لمَ أخترتني ولم تختر العاطفة ؟ , هل تجدني أغريك بأفكاري ؟ , وماذا ستقدم لي مقابلاً لهذا الإختيار ؟ , و و و !! , ضوضاء فكرية غير مسبوقة ستجدها في ذلك الحين , والعاطفة ستبدأ في الإنسحاب من كرات دماؤك وتتلاشى رويداً رويداً , حتى تنمحي تماماً وتتركك وحيداً غارقاً في هذا العبث الفكري !! .. والآن , هل تجد نفسك بسيطاً حقاً كما تعتقد ؟ ..
احذر .. فنظرتك تلك قد تُكلفك الكثير ..
لا تنظر لذاتك على أنها بهذه الدرجة من البساطة , فمن أقنعك بهذا الهراء ؟ , أنت أعقد مما تتخيل وتتصور بكثير , أنت الشاحنة الحاوية على بضائع تزن أكثر مما يمكن لها من أن تتحمله , وسائراً بطريق سريع لا يعرف التوقف , ومُطالب بالوصول إلى الهدف في وقت مُحدد , لا ينقصه لحظة حتى , فهل تعتقد أن برغم مظهر الشاحنة البسيط ولونها الباهت وعجلاتها التي على مشارف الهلاك , أن يمحي ذلك كله حقيقة ما تحويه من قوة لا يُمكن تحملها ؟! , لا تنظر لها بل أنظر فيها , فيما تُعانيه .. ففيها تكمن كل الحقيقة ..
والآن .. حان وقت العزف .
أتريد وصفة بسيطة لتتخلص من هذا المأزق الذي وضعتك الحياة فيه ؟ , مأزق التضاد والتنافر المعنوي الذي يحدث داخلك ؟ , بالطبع تريد , فمن منا بعد كل هذا يود أن يستمر في تلك المأساة وبكل إرادته ؟! , إذاً إليك الحل ..
ما عليك سوى أن تعزف على أوتار التوازن ..
نعم لقد يتنافس داخلك فريقان , وكلاً منهم يحاول بأقصى ما يملك أن يفرض نفسه على الأخر , هو صراع والبقاء فيه للأقوى وفقط ولكن ثمة طريق فرعي يربط بين الطريقين , لقد تغافلت عن تلك الحقيقة الأخرى التي بدأت تتضح لنا الآن في الختام , طريق قصير ولكنه السر كله , بسيط ولكنه يحتاج لإنسان قوي حتى يعي كيف يستغله بالشكل الصحيح دون أن يضيع فيه , وتر يربط بين الوترين الأساسين , ودونه لن يصدر أي نغمة ولن تخرج سيمفونية التوازن للنور , بقليل من العزف ستجني أعظم الثمار , وستجد النغمة تتحد مع بعضها وتتلاصق لتستمع بعدها إلى أروع معزوفات الحياة , معزوفة الإتزان بين ما يفرضه العقل وبين ما يرفضه القلب , فبعزفك هذا ستجد إنسايبة تحدث بين أثنين من أخطر ما يملك البشري , عقله العنيد وقلبه المسكين .. فلكل مقام مقال , ولكل سبيل بداية لا يجب أن تبدأها إلا في حينها وفقط ..
التعليقات
فهدي بالنا يا الله ...أنت أعلم بحالنا منا .....أنت تعلم الجهر و ما يخفى....دمت اخت نوراااااااااااااا مبدعة موفقة ان شاء الله