(نبتدي منين الحكاية) يا حليم والقلب دائما (موعود) معايا بالخواء والوحشة، فلا ثمة (سواح) هنا ليربت على قلبي ويغني له (يا خلي القلب)، لكنني أعرف نبوءة (قارئة الفنجان) مسبقاً، ولهذا تركت نفسي تهيم في (مداح القمر) علها ترسل (لأعز الناس) برقياتي وسلاماتي الغير معلنة!

لو سُئلت عن ماهية شعور الفرح، أو كيف يسافر عابراً الأكوان ليستقر في قلب المحظوظ؛ سأقول ببساطة شديدة.. أن تسمع صوت حليم! 

      صوت العندليب الأسمر بالنسبة لي هو تجسيداً للفرح والنشوة والأمل، صوته يجعلك تقفز من مكانك وسط الغيوم، تسترخي على سحابة عابرة وتطير بك نحو المجهول؛ وما أحلى المجهول في حضرة العندليب!

"عاشق ليالي الصبر مداح القمر..

عشق العيون السمر غواني السهر.

لولا النهار فى جبينك..

لولا الورود فى خدودك..

لولا الأمان فى وجودك..

ما كنت هويت ولا حبيت

ولا حسيت بطعم الحب يا عمري"

هذا مطلع من فاتنتي وملهمتي "مداح القمر" لحنها الرائع بليغ حمدي وكتبها الشاعر المبدع محمد حمزة، وقد استلهمها من موشح "قدك الميَّاس" وهو موشح يعود إلى التراث الحلبي السوري؛ سبق وأن غناها الكثير أشهرهم صباح فخري وسمير الاسكندراني ومحرم فؤاد، لكن محرم أضاف تعديلات عليها مثل حليم، وحدهما صباح وسمير اللذان غنياها في نسختها الأصلية.

هذا مطلع النسخة الأصلية...

"قدك الميَّاس يا عمري

يا غصين البان كاليسر

أنت أحلى الناس في نظري

جل من سواك يا قمري"

وهو ذاته المقطع الذي تغنى به - بشجن وإبداع خالصين - أحد شخصيات مسلسلي المفضل حديث الصباح والمساء، وهذه بقيته...

"عيونك سود يا محلاهم

قلبي تلوع بهواهم

صار لي سنتين بستناهم

حيرت العالم في أمري"

وها هو مقطع الفيديو لمن أراد أن يمتع إحساسه وأذنيه!

https://youtu.be/OEPhnzF2fJw

أما هذا المقطع من نسخة محرم فؤاد والتي عدلها الشاعر مجدي نجيب...

"قدك الميَّاس يا عمري

يا غصين البان كالبدر

أنت أحلى الناس في نظري

يا بسيم العين يا قمري"

       وهذا هو مقطع محمد حمزة...

"قدك الميَّاس يا عمري

أيقظ الإحساس في صدري

أنت أحلى الناس فى نظري

جل من سواك يا عمري"

ونلاحظ أن المقطع الذي يبدأ بقدك الميَّاس هو البيت الأساسي في الموشح الحلبي، لكن كما لاحظتم معي تعديلات كل من الشاعر مجدي نجيب والشاعر محمد حمزة، ويبقى الموشح نفسه جميلاً ورائعاً في كل التعديلات!

      ولكن نسخة عبد الحليم هي التي تفوقت من بينهم، وما زال صداها وشجنها يعيش بداخلنا وبيننا حتى الآن، فحليم لم يكن وحده. بعبارة أدق كل العناصر الناجحة والإبداعية كانت في صفه، بدءاً من الشاعر محمد حمزة - وهو تميمة حليم السرية - ابحث عن كل أغاني حليم المبدعة ستجد محمد حمزة خلفها ببراعته ولمسته الساحرة التي جعلته كاتب أغاني العندليب! وطبعا لن ننسى الملحن العبقري بليغ حمدي رغم أن بليغ كان في بداياته حينها، ويذكر أن حليم أشاد به على المسرح لإعجابه الشديد باللحن؛ كما كان معه العازف الموهوب على الجيتار عمر خورشيد، إذن كل هذه النجوم اللامعة تحالفوا، واستطاعوا حياكة ملحمة فنية يصعب نسيانها مهما مر عليها الزمان.

"يا شعر ليل يا ليل يا ليل

وفـارد ضفايرك عالقـمر..

يا أبو ضحكة حلوة منورة ليل السهر

يا ليل يا ليل

يا للي حسنك خللي دقات القلوب بتقول آهات"

إن كان على الآهات يا حليم فهي كثيرة، وحده شجن صوتك وعذابه الذي يستطيع انتزاعي من حياة لا تأبه لأحد أو لشيء. لكن بصدق بداخل كلماتك وصوتك أجد عالمي الذي لطالما نشدته وبحثت عنه، فأشعر مثلا وكأنني زرت أماكن ورأيت أشخاصاً، وعشت لحظات حتى أنني أجدني أبكي من الفرح، ومن الدهشة!

     بالطبع أنا لا أعرف كيف هو شعور الثمالة، لكنني أستطيع أن أقول أنني أدركت جزءًا منه وأنا أتمايل في انتشاء على هذا المقطع تحديدا...

"عيني يا عيني عيني عليكي

كل القلوب بتدوب حواليكي

أما أنا .. وحدي أنا

باشوفك بس بعيون غير عيون الناس..

وأحبك بكل ما فى القـلب من إحساس"

     عندما سُئل حليم مرة عن سر نغمة صوته الحزين قال: هذه هي حياتي، الحزن ملتصق بي منذ صغري كوني يتيماً.

حليم قبل أن يخرج على المسرح ليغني رائعته مداح القمر لأول مرة، داهمه النزيف اللعين المعتاد فغادر من فوره إلى لندن ليتلقى العلاج، وعندما عاد وجد صديقه محمد حمزة انتهى من رائعة أخرى وهي "موعود" ثم فاجئه وفاجئ فرقته الموسيقية بتأدية موعود قبل مداح القمر، مضيفاً أن: موعود هي ما أشعر بها الآن.

لن أختم هذا التدوين بالحزن، وكيف أختمه بالحزن وصاحب أرق قلب وأحلى ضحكة وأعذب صوت غنى:

و أمانة يا دنيا أمانة..

تاخدينا للفرحة أمانة..

وتخلي الحزن بعيد عنا

وتقول للحب استنانا.. استنى