وعد (الجزء الأول) - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

وعد (الجزء الأول)

وعد

  نشر في 18 ماي 2016 .

وَعدْ (الجزء الأول)

وصلَ المدينةَ مع غروبِ الشمسِ و قد بلغَ منه التعبُ ذروته , و لكنَ العقلَ لم ينفكْ يتساءلْ: كيفَ و أينَ سيمضي ليلتَه؟ رحلَ عن بلادهِ البعيدة, و قدْ تآكلَ بنيانُ البيتِ بعدَ وفاةِ الأبِ ,و قدْ ودعَتهم أمهُم قبلهَ بسنين, و تنازعَ الميراثُ البنين, فَبِيعَ منزلٌ وَحّدهم أجمعين ,و هُدمَ دكانٌ كانَ مصدرُ رزقَهم الوحيد. لم يُجِدْ قاسمُ و حامدُ و أيوبُ صنعةً سوى البيعِ و التجارةِ. تفرقوا و ولّى كلٌ إلي وجهةٍ ينشدُ مستقراًَ و رزقا.

وقفَ في الصفِ الأولِ مع المصلين , و أعلنَت ملامحُ الأشعثُ الأغبُر أنه عن المدينةِ غريب. وَلّتْ جموعُ المصلين و إقتربَ منه إمامُ المسجدِ عبدُ المقصودِ بالترحيب , و تقصى عن حالهِ , و سببِ زيارتهِ للمدينة. غريبٌ يبحثُ عن رزقٍ, و قد استنفذَت الرحلةُ الطويلةُ كلَ ما لديه من مالٍ و زاد. وأطنبَ الغريبُ و زاد.. ليسَ لديّ مكانٌ أبيتُ فيه أو أتوارى عن أعينِ العباد. سمحَ الإمامُ لقاسمٍ أن يبيت ليلتَه في المسجدِ على أن يتدبرَ أمرَه مع الصباحِ, و أرسلَ له بعضَ الطعامِ و قليلاً من الماء.أتى النهارُ كما ولى, و لم يجدْ عملاً و لا مأوى. سألَ الإمامُ النصيحةَ بأدبٍ و رجاء.

الغدُ هو يومُ الجمعةِ , و يأتي الشيخُ موسى من القريِة القريبِة ماشياً ليصلي الجمعةَ, و هو رجلٌ كثيرُ المالِ, عالمٌ تقىٌ ,له إبنةٌ وحيدة ,إن شئتَ اخطبها. لم يغبْ السؤالُ عن بديهتِه الفذةِ و ذكائِه الواضح. سألَ قاسمٌ و إستحلفَه الأمانةَ و الصدقَ أن يصارح: و لِمَ يزوجُ الشيخُ موسى إبنتَه الوحيدةِ لغريبٍ فقير؟ أجابهُ الإمامُ إنَ رقيةَ تشربتَ من علمِ أبيها الكثيرَ تخلقَت بخلقهِ و ورثتَ من ذكائِه الكثير. جالتْ عينا قاسمٍ تستحثهُ على الإستطراد ِو الوصولِ إلى بيتِ القصيد. و لكنْ ..! تساءل قاسمٌ. ردَ الإمامُ: ولكنَ رقيةَ لمْ تمنحْ من الجمالِ نصيباً و لا قدرِ أوقية. كلُ من أرادَ خطبتَها عافَ الزواجَ منها , بالرغمِ من ثرائها و علمها.إذهبْ يا ولدي و قابِلها لربما رأيتَ منها ما يجعلكَ ترغب فيها.

قدمهَ الإمامُ للشيخِ و سألَهُ أن يوظفَهُ لديهِ , و أنْ يسكنَهُ حتى يتدبرَ أمرَه. عادَ مع الرجلِ ماشياً لم يدرِ كيفَ إنقضى الزمنُ و قد أحسَ أنَه يغوصُ في بحرٍ من العسلِ يكادُ يتذوقُ على طرفِ اللسانِ حلاوتَه , و الشيخُ يطربُ آذانَه بالقرانِ حيناً و الحديثِ حينا آخر و بالمثل.وصلَ البيتَ و نادى: يا رقيةَ.. لدينا ضيفٌ فأعدي الغذاءَ وهيئي الفراشَ للضيفِ. أكلَ كما لم يأكلْ قطْ , و ما أنْ إنتهى , في نومٍ عميقٍ غط . أيقظهُ الشيخُ لصلاةِ المغربِ و حضرَ معهُ الدرسَ, و عادوا للبيتِ بعدَ صلاةِ العشاء. إستطابَ الطعامَ , و إنتبهَ لجمالِ البيتِ و ترتيبهِ الدقيق, و بدا كما لو كانَ نائماً بدأ يفيق .قطعَ عليه الشيخُ سلسلةَ الأفكارِ و قالَ له:يا ولدي نمْ فغداً سأسلمُكَ متجراً صغيراً تديرهُ, و سأتدبرُ لك مكاناً تنامُ فيه, و أوصاهُ: يا ولدي حصنْ نفسكَ بالأذكار. فراشٌ ناعمٌ و نظيفٌ, مطرزُ بخيوطٍ من حرير. سمعَ حوارَ الشيخِ و إبنتهِ رقية و هو يسألها: ماذا حفظتِ اليومَ يا أعزَ بنية. قالتْ: أسمعكُ يا أبي … قرأت من القرآنِ, و لم يسمعْ في حياتهِ أجملَ و لا أعذبَ من تلاوتها, حتى وصلتْ إلى قوله تعالى:”وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.” فتهدجَ صوتُها , و سألَها الشيخُ أن يكملوا مع الغدِ.ظلَ صوتُها يقرأُ و يقرأ ,و نامَ يظنُ أن الإمامَ عبدَ المقصودِ لم يصّدُقْهُ القول ,فلا يمكنُ أن تكونَ صاحبةُ هذا الصوتِ دميمةً. أمضى عندَ الشيخِ ثلاثةَ أيامٍ- كانَ يترقبُ الوقتَ بعدَ صلاةِ العشاءِ ليسمعَ تلاوةَ رقية و أسئلتِها الذكية , و يتعجبُ أنّى كل هذا العلمِ لفتاةٍ صبية- إستوفى فيهن حقَ الضيافةِ ,و آن له أنْ يغادرَ منزلَ الشيخِ, و لكنَ إكبارَه و شوقَه لرؤيِة رقية,دفعَه لخطبةِ البنية.

أتتْ تحملُ الطعامَ و بأدبٍ ردتْ السلام . لم يستطعْ قاسمُ الردَ و .. لا الكلام , لقدَ َنسيَّ الحسنُ أن يضفي عليها أيُّ مسحةٍ من جمال. لم يستطعْ أن يعاودَ النظرَ إليها, و أغلقَ قلبُه دونها الآمال. إستأذنَ بالمغادرةِ كأنما لسعتُه عقربة ,فليس في هذه الفتاةِ شيءٌ يتمناهُ و يرغبه.أتى موعدُ صلاةَ العشاءِ و إذا بالإمامٍِ يقرأ:”وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.” فإقشعرَ بدنه,و أحسَ ببردٍ شديدٍ , غادرَ المسجدَ لسكنهِ الجديد, يركضُ فإصطدَم برجلٍ مسنٍ, كادَ قاسمُ أن يوقعَه أرضا. إعتذرَ من الرجلِ الذي فاجأَه قائلاً: ” عسى أن تكرهوا شيئاً و هو خير ٌ لكم.”فلو لم تصطدمْ بيّ لوقعتَ في تلكِ الحفرةِ هالكاً ,و لن يراكَ أحدٌ في هذا الليل, و أشارَ بيدهِ إلى مكانٍ قريبٍ جداً منها. دخلَ سكنَه الجديدِ و إذا بجارهِ يقرأُ بصوتٍ نديٍ رطبٍ نفسَ الآية. وضعَ رأسَه على الوسادةِ , و لكن صوتَ رقيةٍ تقرأُ سورةَ البقرةِ و ترددُ نفسَ الأيةِ, كانَ آخرُ ما يتذكر قبلَ أن يغوصَ في نومٍ عميق , رحمَ الفتى من شدةِ الحزنِ و الضيق.



  • 2

  • راوية وادي
    كاتبة و رسامة فلسطينية .مدونتها الخاصة علي الإنترنت Rawyaart : (https://rawyaart.com) متفرغة للكتابة و الرسم في الوقت الحالي.
   نشر في 18 ماي 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا