على رمال التيه نصبت خيمتي السوداء ، التي لم تكد تستوعب أمتعةً أحمل فيها سنين عمري ، بين أسيان الكتبان وسديم السراب ، نصبتها وقد انغرست الاوتاد في أحشاء الارض الجافة بإخلاص ، لتمنع تطاير أشيائي في حالة تمرد الرياح ، رغم أن الجو يومها كان حاراً والشمس تتربع في السماء بازدراء .
ثم مالبثت أن وزعت نظري بين السحب حتى ظهر كنقظة يتيمة في الافق ، يقترب من الارض بإقدام بينما تنسدل أولى قطرات العرق على جبيني ، وترتجف غضاضة السؤال في رأسي ، أبشرٌ هذا أم غير ذلك ؛ مسخ أسطوري أو غضب الآلهة ؟
في وقفة سريعة مع الذات ، تذكرت ما أدين له من خضوع و طاعة أمام شموخه الرادع ، حتى عندما خنته وانصعت لمراهقة التفكير ، يوم استسلمت لسجارتي الاولى ، ذرفت حينها دموعاً ، أو كاليوم الذي بحثت فيه عن الحقيقة السادية ، فوقعت في غياهب الشك المدقع . كيوم كنت جالساً وحيداً في غرفتي المظلمة ، أقاوم المألوف القاتل و خائف مذعور من المجهول الاكبر ، فقدت تلك الليلة نعاسي فسقطت هذه الفكرة كقطعة أشعت في بركة متسخة ؛ فكرة إخراج كتاباتي لوهم الواقع ، ثم انفجرت الاحرف والاحداث في رأسي ، لكن سرعان ما تبذذ حماسي وقررت التوقف عن نشر تفاهتي في الاسبوع الرابع، ثارت ثائرته أنذاك ، فقمت في عتمة الليل أدون الافكار المتناثرة في عقلي رغم جرأتها .
كيوم تحقق مرادي في الهجرة ، مقابل تفطُّر قلب والدي ، أدركت يومها أن الفظ غليظ القلب كان عين العطاء بنفسه ، آسف يا أبي على تعبيري العنيف ، لكنك ربيتني على الصراحة والصدق في القول ، أما أنت يا أمي فلا أجد إلّا اعتزال الحديث عنك هذه المرة ، كي لا أبلل ورقتي كما فعلت في الاسبوع السادس .
كيوم حملت قلمي الكالح الذي تركته في إحباطٍ عظيم ، واستمريت في كتاباتي رغم البؤس العميق الذي عشته في الاسبوع الثامن والتاسع .
كيوم وقعت في الحب من أول نظرة في الاسبوع العاشر ، في الحقيقة لم أحب شعرها القصير ولا هدوءها الرهيب ، ولم تعجبني حتى ، كنت فقط أفرِّغ ترسبات من سنوات إدماني على أغاني " أم كلثوم " لكنها كانت محاولة فاشلة في الكتابة عن الحب .
كيوم كتبت " يوتوبيا " بحبرٍ يائس ، أو كيوم كتبت " الطريق إلى كابول " بقلم متعطش للورق ، أو ربما كاليوم الذي رأيت فيه أعزّ أصدقائي يحتضر أمامي ، منذ ذلك اليوم لم يعد لكلمة " الخسارة " معنى في حياتي .
حسناً ، أعلم أنني أدين له بالشيئ الكثير ، لقد ساندني و عاقبني بما فيه الكفاية ، لكن في الاسابيع الثلاتة الاخيرة لم يكن ذنبي ، حقاً أصبت بلعنة الحروف ، كنت كلما أعزم على فتح مسودتي ، تتشنج أصابعي و تنفر الافكار من رأسي ...
حطّ الكائن على الارض أخيراً ، وقد بدا أشبه براعي غنم من خمسنيات القرن الفارط ، عباءته المهترءة والعمامة التي طوقت رأسه ، ثم ما إن نزع القناع من تحت وشاحه حتى أيقنت أن ما أمطرته السماء للتو ، ليس مسخاً أسطورياً أو كائناً دميماً ، كان وجهه مؤلوفاً لديّ ، بنذبات خفيفة على محيّاه .
آن للشكوك أن تزول وآن للإيمان أن يتجدّر وآن للحساب أن يرفع ، لكن ماذا عساي أدفع لذلك ثمناً ؟
حملق إليّ مطولاً، ثم مدّ لي مذكرة بأوراق نظيفة وهو يحرك شفتاه برزانة " لم يحن الوقت بعد يا صغيري ، لم يحن الوقت بعد ... "
أفعلاً لم يحن بعد ؟ أم أنّ وخزات التأنيب كانت كافية .
يبدوا أن حتمية زوالي قد سوِّفت إلى أجلٍ غير مسمى ، ربما السنة المقبلة في نفس الوقت ، أتمنى أن لا أخيب أماله كي نلتقي في مكانٍ غير هذا ، قد يكون جزيرة برمال بيضاء كريستالية ، محاطة بمياه زرقاء صافية وطقسٍ شبه استوائي ، يمكن أن نحتفل أيضاً بأحد إنجازاتي هناك ، نرقص معاً تحت قبة السماء الغائمة و نرتشف النبيذ بحرية ، فلحظة الغبطة تلك ، لن تدوّنها الكتب ، لأن الكُتّاب نفسهم سينهمكون في الاحتفال معنا حينئذٍ .
النهاية ~
-
محمد العوينةطالب ، السنة الاولى سلك إدارة الاعمال .