رحلة البحث عن كنز الأرض
من سلسلة أدب الرحلات للأستاذة نجاة الأخضر
نشر في 24 يناير 2019 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
كان يوما مغيّما بالسحب، استحت فيه الشمس فتمنّعت عن إظهار أشعّتها رغم مناجات نسمات الشتاء الصباحية الساعية لتبريد الأجواء محاولة طرد السحب و التلطيف من أشعة الشمس.. تواصلت المشاكسات و استحالت إلى معركة إثبات وجود لتنتصر تلك الغيمات المتفرّقة التي سارعت بالتجمّع، متحالفة مع النسمات، محكمة قبضتها على الشمس لإخماد بريقها فما كان من الأخيرة إلا التواري عن الأنظار شيئا فشيئا معلنة هزيمتها و مفسحة المجال لمن ربح المعركة.
في العشيّة، اكتئب النهار و توشّح بألوان مظلمة لتتساقط قطرات من المطر الذي طال انتظاره استقبلناه بالفرح و لساننا ناطق بالدعاء راجين من المولى أن يجعله غيثا نافعا… تذكّرت ما كنّا نفعله و نحن صغار و طريقتنا البريئة و العفوية في استقبال المطر ففي كلّ مرّة تنزل قطرات المطر نرفع أيدينا إلى السماء و نتراقص على نغماتها و نغنّي بأعلى الصوت :
"يا مطر يا خالتي..
صبّي على قطايتي..
قطايتي مدهونه..
بالزيت و الزيتونه.. "
حنين و إشتياق إلى تلك الطفولة الخالية من مشاغل الحياة و مشاكلها.. إلى يومنا هذا في الحقيقة مازلت أقوم بتلك الطقوس الطفولية عندما يقرصني الحنين لا أملك زمام نفسي فأقف في فناء منزلنا المحاط بسور يحجب أنظار المتطفلين و يستر ثورات جنوني من أعين لا ترحم، أقف تحت المطر و أتقافز يمينا و يسارا و أغنّي أغنية الطفولة المفضّلة لديّ، أعشق رائحة المطر و أذوب عشقا عندما تلامس وجهي قطراتها الباردة أحسّ بأنّها تحييني كما تحيي الزرع و النبات…
كان هذا يوم الثلاثاء 22 جانفي يوم أوّله نزهة آخره نزول المطر… يوم حافل بالأحداث حيث قرّرنا الذهاب إلى الريف أين يملك الوالد أرضا مغروسة بالزيتون ورثها عن والده، أراد تفقّدها فاستغلّيت الفرصة للبحث عن "كنز الأرض" لهذا تركتني العائلة في أرض ليست بالبعيدة عن أرضنا و واصلوا مسيرتهم بعد أن تمّ اخماد احتجاجات والدتي و اعتراضها على تركي بمفردي إلا أن الوالد حفظه الله تمكّن من اقناعها.
من هنا تبدأ رحلة البحث عن " كنز الأرض" .. كنز الأرض ليس الذهب المدفون في الأرض هو المقصود هنا بل ثمرة تشبه حبة البطاطا تلك الثمرة التي قال عنها الرسول عليه ألف صلاة و سلام «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين» نسمّيها نحن في تونس "الترفاس" يُقال بأنّه لفظ أمازيغي يشاركنا في هذه التسمية أشقائنا في الجزائر و ليبيا و المغرب، أما في الخليج العربي يطلقون عليه اسم "الكمأ أو الفقع" و في السودان يسمّى "ﻧﺒﺎﺕ ﺍﻟﺮﻋﺪ ﺃﻭ ﺑﻨﺖ ﺍﻟﺮﻋﺪ ﺃﻭ ﺍﻟﻌﺒﻼﺝ" كما يسمّى أيضا في بلدان أخرى شجرة الأرض و بيضة الأرض و العسقل، و غيرها من المسمّيات.
على اختلاف تسمياته فهو بالنسبة لي كنز الأرض الحقيقي الذي منّ الله علينا به لا يحتاج لزراعة و لا سقي و لا إهتمام منّا نحن البشر بل فقط إلى نزول أمطار مبكّرة و تحديدا في شهري أكتوبر (10) و نوفمبر(11)التي تعتبر أساسية في تكوينه الأوّلي بدونها لن ينبت و هي إحدى الدلالات البارزة التي يعتمدها جامعوا الترفاس لمعرفة إن كان الموسم مثمر أو لا.
هكذا تنبته الأرض من رحمها و تقدّمه هديّة لنا، هدية تحتاج الكثير من الصبر و البحث المتواصل و عين ثاقبة ترصد أي بروز أو تشققات فوق التربة فبحسب نوع "الترفاس" يكون حجم ذلك البروز : من بين الأنواع التي أعرفها "الترفاس الأبيض" نسبة لِلَونه الأبيض هذا النوع يحدث تغييرات واضحة جدا و قد تجده بارزا فوق التربة و يتميّز أيضا بكبر حجمه أتذكّر في العام الماضي أن أحد المواطنين من بن قردان التابعة لولاية مدنين عثر على ترفاس أبيض بحجم 2700 غرام و هي الأكبر حجما إلى حد الآن، في العام الفارط أنا أيضا عثرت على واحدة تزن 437 غراما، الترفاس الأبيض هو الأغلى ثمنا إذ وصل سعره إلى 120 دينارا تونسيا، النوع الثاني من الترفاس هو "الترفاس الأحمر" عادة يكون لونه محمرّ يشبه لون التربة و أحيانا يميل للسواد و هو يحدث بروزا بسيطا في التربة و العثور عليه أصعب من العثور على النوع الأوّل من الترفاس، وصل ثمنه 70 دينارا تونسيا.. يوجد نوع آخر من نفس عائلة الترفاس لكن في العادة يسبقه في الظهور نسمّيه نحن "الزوبر" يتميّز بالحجم الصغير و بلون خارجي أسود و لون داخلي أبيض و يعتبر من أردأ الأنواع.
قرأت ذات مرّة عن محتوياته الغذائية في أحد المواقع فوجدت أنّه يحتوي على : بروتين بنسبة 9%، مواد نشوية بنسبة 13%، دهون بنسبة 1%، معادن مشابهة لتلك التي يحتويها جسم الإنسان مثل الفوسفور، والصوديوم، والكالسيوم، والبوتاسيوم،فيتامين "أ" و " ب" و كمية من النيتروجين بجانب الكربون و الأكسجين و الهيدروجين ممّا يجعل مذاقه شبيه باللحم. و حسب التحاليل التي أجريت على الترفاس أو الكمأة تبيّن أنّها مصدر مهم للبروتينات وأنها تتكون من 77% ماء، و 23%مواد مختلفة و تم التعرف على سبعة عشر حمضاً من الأحماض الأمينية في بروتينيات الترفاس.
فعلا هو كنز الأرض الذي لا يقدّر بثمن لما يحتويه من مكوّنات نافعة تساعد على الوقاية من الأمراض المزمنة و في علاج العيون و في تسهيل الدورة الدموية و الوقاية من هشاشة العظام لهذا يقدّره الأروبيون و يشترونه بأغلى الأثمان و يبيعونه أيضا بأغلى الأثمان.
كان العام الفارط استثنائيا حيث تواجد الترفاس بكثرة في الجنوب التونسي و أصبح يباع على قارعة الطريق و في الأسواق كما تباع البطاطا فمثّل مورد رزق للكثير من المواطنين و زيّن موائد الفقير و الغني، على العكس من هذا العام فوجوده نادر.
متحصّنة بخبرتي البسيطة في مجال جمع الترفاس و متحلّية بالصبر و متسلّحة بعود نبتة يابس يساعدني في النبش عن الترفاس، واضعة نصب عيني نقطتين أساسيتين : أوّلا إيجاد عروق الترفاس أو نبتة الرقروق التي تمثّل النبتة المضيفة بالنسبة له، ثانيا رصد أي تشققات قربها..
بحثت مطوّلا لما يقارب الساعة لكن لم أجد غير 4 حبات من الزوبر، تعبت من البحث لهذا عدت أدراجي إلى مكان تواجد العائلة مطأطئة الرأس من لوعة خيبة المسعى.. قبل أن أصل إليهم بمسافة قليلة وجدت غايتي أخيرا إنّها عروق الترفاس، تجدّد الأمل و دبّ النشاط، حثثت نفسي على البحث بجدية إلى أن كلّلت جهودي بإيجاد أوّل ترفاسه من النوع الأحمر.. واصلت البحث إلى أن لحق بي بقية أفراد عائلتي : أمي و أبي و أختي.. بقينا لساعة أخرى تقريبا و نحن نبحث إلى أن أعلن والدي عن ساعة المغادرة..
الحصيلة النهائية لهذه النزهة : حوالي عشرة من الترفاس الأحمر و تسعة من الزوبر… غادرنا المكان و في البال عودة قريبة لمواصلة البحث عن "كنز الأرض".
-
نجاة علي الأخضررائدة بمعهد الفضاء المدني
التعليقات
استمتعت بكل جملة منه. الفقرة الخاصة بالمطر عذبة جدا.. أنا أعشق المطر.
أما الفقرة الخاصة بالكمأ... حقيقة هذه أول مرة أقرأ عنه ولا اعرف ما هو وكيف يبدو شكله. سأبحث عنه.
شاكرة لك هذا المقال الرائع.