شتان بين الثرى والثريا

.. هيام فؤاد ضمرة ..

شتان بين الثرى والثريا.. حقا هذا العنوان لا تستطيع تجاهله ويحضرك بكل معناه حين تشهد نشاطا ثقافيا أريد به موقفا لعرض العضلات، والتحضير له بالجهد المضني والسخاء بالإنفاق عليه ليكون بكل المعنى فاشلا فشلا ذريعا، يخرج منه الجميع وشعور سلبي يعتريهم مما سمعوا ورأوا، فيهمسون بأذن بعضهم بأنهم صرفوا وقتهم الثمين بحضورهم هذا العمل.

لأنهم وجدوا أنفسهم في مشروع تم اختيار منظميه على عجل واختيار من يتفننون بتكسير اللغة على حجر رحى ألسنتهم الغليظة وابداعاتهم المسروقة، إلا بعض قليل جدا مما رحم ربي على قول أحد الحاضرين، وكأن منظموه اجتهدوا ليصنعوا تمثالهم المشوه من نتاج ضعيف، وجعل من يتصدر منبرهم سارقي الأعمال الأدبية ومزوريها، فلا تلتقط أذنك إلا لعدد محدود جدا ممن نستطيع أن نسميهم مبدعون.

وكل هذا ليس إلا لهدف غير برئ في نفس يعقوب، الذي انتابه حمق التقدير والتفسير والحكم المغالط الذي لا يتأتى إلا في نفس مريضة تعتاش على خبث النوايا وسوداوية الأعماق، لرغبة عجيبة انتابته، فأخرج ما أخرج من خلال عمله المشوه لقصد توجيه رسالة ضمنية خبيثة لشخص ما، لا يوجد إلا في تلافيف عقله المريض الذي صور له أن هذا الشخص ازدراه حين لم يشركه بأحد أعماله العظيمة الناجحة، القائمة على أسس النجاح، شخصية بهذا التفكير حتما تحتاج لعلاج نفسي وروحي عميق..

فحين يفتقد الانسان الايمان الصادق بداخله وتنتابه الأوهام، يفتقد قيم هذا الدين وقيم المجتمع الصالحة، والغريب أن البعض ظلوا يحملون صفات سلبية على مدى عمر طويل عاشوه لم تستطع أن تصلحه خبرات السنين الطويلة من أعمارهم.

لا نستطيع النظر نحو هؤلاء إلا بمشاعر الشفقة والأسف، لأنك ترى بتصرفاتهم مواقف عدم النضوج في عمر هو أصلا من المفترض أن يصل بهم نحو النضوج، ربما لأن هناك مقولة سائدة يعرفها القاصي والداني تقول "أخبرني من تصادق أخبرك من أنت"، فالمرء على دين خليله، وإذا صادقت العاقل المتوازن اتزنت مواقفك وامتلكت قدراً من حكمة من تصادق، وإذا صادقت الخبيث تخابث فعل عقلك ومنهجك وأسقطت نفسك بالحضيض وأنت غافل يأخذك الغرور.

وقد راجعت أقوال الحكماء في وصف أهل الخبث فوجدت ما لا أستطيع حتى الاستعانة بالاستشهاد به لبشاعة وصفهم للخبثاء وآثار خبثهم، ويكفي القول في هذا المحضر وعجالته، أنه إن طابت نفس المرء وأخلاقة طاب عمله، فآفة السيرة خبث السريرة، وسوء الطبع من التطبع ولؤم العنصر، فالشقاء نتيجة طبيعية لخبث الطبع والجوارح، لأن قلب الخبيث يتفجر كيدا، وقلب الطيب يعكس طيباً بفوح من عاطر سيرته وسلامة سريرته، لأن قلبه يتفجر النقاء وجوارحه تتطبع بصفاء انعكاسات سريرته.

ويقول سبحانه وتعالى في محكم قرآنه العظيم " قل لا يستوي الخبيثُ والطيبُ ولو أعجبكَ كثرةُ الخبيثِ فاتقوا الله يا أولي الألبابَ لعلكم تفلحون"

يقول أحد الكتاب المفكرين: إذا كان الفرق بين العبقرية والغباء شعرة، فإن المسافة بين الخبث والذكاء لا يمكن قياسها لعدم وجود وحدة قياس يمكن أن تقارب بين الحالين، لأنهم وحدهم الأذكياء يعرفون القيمة الحقيقية للحرية والكرامة الإنسانية، ورفعة الشموخ، والارتقاء الحقيقي بالقيم والأخلاق، والتعامل الإنساني المتعافى.

فالخبثاء دوما يبحثون عن مصالح شخصية ضيقة الأفق بقدر ضيق عقولهم ونفوسهم، لا يعترفون بغيرهم، ولا يحبون أن يعرفوا حجم وقيمة ما يمتلكونه، يريدون السيطرة حتى على قرار غيرهم، لا يدركون أن كرمهم المادي لا يغطي على خبثهم المعنوي، ولا لبوسهم لطف العبارة المتكلفة يستطيع أن يغطي على بشاعة ما يشف فيهم من خبث المعاني، فالذكاء يرافقه بالعادة فعل أسوياء بالعقل والمنطق، والخبثاء مهما تكلفوا بالقول وواروا خبثهم فإنه يشف فيهم بوضوح، فسبحان الله علت قدرته الذي يجعل الخبيث لا ينتبه على أنه باختياره العبارات والمعاني يكشف ذاته بذاته، ويفضح نفسه بنفسه، لأن كلامه فيه تخبط واضح يدركه الأذكياء، فهو بالتالي مسكين يعمد بخبثه لاطفاء غلواء نفسه، فلا يزيده الله إلا سقوطا واحتقارا.

فالخبث ليس فقط قول أو فعل الخبائث الظاهرة المتعارف عليها، فالخبث أن تبطن الشر وتعمل به، وتغطيه بطريقة تظن نفسك بها تتذاكى، وما فيك التذاكي، لأن الذكاء يخرج عن سريرة يتوضح نقاءها وصفو مرادها، فالخبث أساسه الحسد من نجاح الآخرين، والرغبة باختطاف هذا النجاح، وهو داء مزمن لمن جبل على التخابث، لأن تفكيره يتمحور حول نفسه وحده، ولأن من تربى على طبع شاب عليه.

الطيب الأصيل معدنه لا يشينه شخص خبيث، ولا يؤذيه فعل الخبثاء، الطيب الأصيل يملك طبيعة قوية، متينة الشخصية، ثابت المواقف، عزيز التكوين، واثق الخطى، صامد يمتلك ثقته بنفسه، صدوق اللسان عفيف الوجدان، ويدرك مجريات ما حوله.

فالخبث الإنساني يعتبر أحد عناصر السقوط الاجتماعي وتردي ثقافته الاجتماعية والأدبية، والتسبب بضعف نسيجه الموروث بعاداته وتقاليده.. فتراجع القيم هي ناتج طبيعي لانعدام الوعي وتشوه السريرة بمخلفات فكرية غير سوية، ومن العجيب أن تبدو مثل هذه الحالة متكاثرة في مجتمعات اليوم التي انفتحت على ثقافة خليط من شعرب العالم، وبدل أن نعدي هذه الأمم برفاعة قيم مجمعنا ونبل عاداته وسمو قيم تعامله، راح مجتمعنا مبهورا بقيم الغرب الغريبة النقل عنه أخبث قيمه وأسوأها على الإطلاق، ففي حين شكلت قيم الدين عندنا حالة الاعتدال والتوازن من خلال التعاطي بعادات وأخلاق رفيعة سامية، تتمثلها من أخلاق رسول الله وقيم القرآن الكريم، في الاحترام والمودة والمصداقية ونقاء السراير والتعامل الإنساني الكريم، انخرط بالنقل ظانا أن سوءهم تحضرا، تماماً كما صناعتهم وعلومهم، يمارسون الكذب الاجتماعي والخبث الاجتماعي والتملق الكاذب على أنه من الشطارة.. لهذا حق عليهم أن ينظروا تجاهنا النظرة الدونية.