عالم فريد اسمه الكرامة
كانت المدينة التي فيها يقطن صغيرة نسبيا مقارنة بالمدن الألمانية الكبرى ، غير أنها تضم بين جنباتها كل المرافق الحيوية الضرورية للدخول لعالم الكرامة الإنسانية ! فزيادة على الأمن المستتب ، و سيارات الشرطة التي تجوب المدينة من أقصاها إلى أقصاها ، و مصالح الوقاية الألمانية المدنية ، مرورا بالمستشفيات و المرافق الصحية العمومية ، كانت هذه المدينة تتوفر على أغلب المصالح الترفيهية التي من شأنها تيسير الحياة بشكل كبير على ساكنيها ، و كل ذلك في قالب غابوي متناسق لم يره من قبل ، فكانت المدنية تغطس بشكل عجيب ، في مساحات كبيرة من الغابات الخضراء و البحيرات كأميرات نائمة ، و كان بإمكان ساكني المدينة الإنتقال من المدنية و قمة التكنولوجيا ، إلى سكون الطبيعة و سحرها و جبروتها ، بخطوات ساحرة ، كانت الغابات تحيط بالمدينة ، و أغلب المدن الألمانية ، كما يحيط عدو عدوه ، يحاصره من كل الإتجاهات و لا يترك له مكان من يفر ! و كان هذا من أجمل الأشياء التي راقته ، ففي المدينة التي منها قدم ، من المجرة الأخرى ، لم يكن بالإمكان أن تجد مكانا أخضر في كل تلك البنايات السكنية و الإقتصادية الشاهقة ، و علم حينما احتضنته ألمانيا بغاباتها و طبيعتها ، أنه كان يعيش في مثل سجن مدني ، سجن ملوث ، بسياراته ، و بناياته و تلوثه ! و كان مكان الجامعة التي فيها يدرس يطل بشكل مباشر على مساحة واسعة جدا من الغابات و البحيرات التي فيها الأطيار تسكن و إليها تؤم ، و تصير في أوقات الربيع و الصيف مكانا للإلهام ، و سوقا لكلمات الشعراء و الكتاب ، عالم خيالي جدا ، عالم مثالي جدا ! رباه ، ما هذا الجمال ، ما هذا الإبداع و الدقة في الصنع ، ما هذا الإتقان ! هناك ، هناك ، أحس كثيرا ، بدينه ، أحس بكثير من الأحاديث النبوية التي كان يقرؤها فقط ، لم يكن لها تطبيق في بلاده التي تدين بدين الإسلام ، و وجد لها هناك أصلا !
كان فكرة أن تجعل جامعة للتحصير مقابلة بشكل متواز مع الغابات و البحيرات فكرة عظيمة فعلا و عبقرية ، فالذين قاموا على التشييد علموا يقينا أن هذا المنظر يساعد فعلا على التحصيل و اليفتح أبواب النفس و العقل ، التي تسدها المدنية و التكنولوجيا ، و البنايات الإسمنتية ، و حتى في فصل الشتاء ، حين يحل الثلج ضيفا على المدينة ، كانت الغابات المترامية الأطراف تنقلب إلى لوحات بيضاء جميلة ، تغري الناظر إليها بطرد ناظريه إليها ، عبر نافظات الجامعة العملاقة المطلة عليها ، و كان احتساء القهوة الدفيئة الساخنة ، على كراس وثيرة فخيمة في الجامعة و أمام النوافذ العملاقة ، في ظل تكييف الهواء الساخن داخل القاعات ، كانذلك متعة لا يمكن وصفها ، حتى أن الكراسي لم تكن خلو من الطلاب في مراحل الإستراحة و بين الفصول … الغابات هناك كمعالج نفسي جامد ، يقضي مرتادوها ، ساعات من علاج نفسي طبيعي ، قلما يستطيع معالج نفسي محاكاته ! و كانت الكراسي الفسيحة في الجامعة محج الطلاب و الأساتذة ، الشيء الذي أعجب به غاية الإعجاب ، كان الأساتذة ، يجلسون مع التلاميذ في ردهات الجامعة ، و فوق الكراسي و الأرائك ، و كان التعامل بين الإثنين ، كتعامل الأصدقاء بينهم البعض ، لم تكن تلك المسافة التي اعتادها هو في بلادة موجودة بين الأساتذة و الطلاب ، حتى في المراحل الإبتدائية و الإعدادية ، في جميع مراحل الدراسة الألمانية ، تجد الأستاذ كصديق لطلابه ، شيئ راقه كثيرا ، فكان من الطبيعي جدا أن تجد الأستاذ في الجامعة ، يمازح طلابه في ردهاتها ، بدون أن ينقص هذا من قدره !
الجامعة في ألمانيا ، مصنع ، لتحرير الكرامة ! الداخل إليها ، ليقابل الكيميائي ، و الفيزيائي ، المؤرخ ، و الجغرافي و العالم و الرياضي ، كخلية نحل ، تنتج عسلا فكريا ، يبني مستقبل بلد ، يعلم ماذا يريد ، مستقبل بلد ، يعتبر الأقوى بين دول الإتحاد الأوروبي ، ها هنا ، كان المستقبل يبنى ، بين ردهات هذه الجامعة ، كانت قوة البلد تتشكل ، كما يتشكل قوس الألوان بعد تظافر جهود قطيرات الماء في يوم ممطر ، حين تشرق عليه الشمس !
كان الإنسان في هذا البلد يبني الإنسان ، و كانت الأخلاق هي العنوان و الإمضاء الذي به خُتم على دستور التعامل بين المواطنين ! كان الكل يعلم ، أن الرحمة أجمل ما في الإنسان ، و أنهم يتشاركون في جل الأاني ، و هي السعادة ، و يعلمون ان السعادة لا يمكن أن تكون في بلد بدون تظافر جهود الكل ، كان الكل يرقى بالكل ، و كانت المبادئ تعتز بالمبادئ ، و كانت القيم التي تجمع بين أفراد هذا المجتمع ، تتمثل في عدل يبسط هيمنته على كل فرد من أفراد الدولة مهما كان منصبه ، و دون انتقاص من قدره ! كان هذا العد الذي يسيطر على المجتمع ، يقيم حياة مليئة بالطمأنينة و الرضى ، بين كل فرد هناك …
خرج يعقوب من الجامعة ، في مساء يوم مثلج ، و بقدر ما كانت الثلوج باردة ، كان وقعها على نفسه دفيئا ، حيث أنه لم ير في حياته كلها ثلجا يتساقط على الحقيقة ! كانت هذه الظاهرة الطبيعية جميلة جدا ، حبيبة كانت على نفسه ، و كان لا يخرج أيام الشتاء إلا متدثرا بشكل كامل بملابس ساخنة ، و لا يبقى يُرى من جسمه إلا لحيته ووجهه ، الذي تغطي خدودة نظاراته الطبية ، و كان الثلج يداعب لحيته ، فيصبح للحظات كشخص شاب عجوز ، أبيض اللحية . الشتاء في ألمانيا قاس جدا في بعض الأوقات ، خاصة بالنسبة للراجلين ، القر في الطرقات يقطع الأوصال ، غير أن جميع البنايات مكيفة بهواء ساخن ، بالإضافة إلى الميترو و الباص !
قصد يعقوب السوبر ماركت الذي يقابل جامعته ، و لا يفصل بينهما إلا شارع كبير ، دخله ، فأحس بلذة كبيرة ناتجة عن التخول من البرد القارس إلى الهواء المكيف الذي يهيمن على السوبر ماركت ! و كما هي العادة كانت، كان أول ما يقصد من الرفوف ، رفوف الشوكولاته و الحلويات ، و كانت هذه الفترة من الشتاء التي تسبق احتفالات أعياد الميلاد في ألمانيا مرتعا كبرا لمحبي هذه المادة ، فتكثر في رفوف السوبر ماركت ، و يقل ثمنها بشكل ملحوظ ، ذلك أن الألمان يقبلون على شرائها كثيرا في مثل هذه المناسبات …
ـ عذرا ، هل أنت مسلم ؟
التفت بشكل أوتوماتيكي إلى الصوت الذي من نبرته خمن عمر صاحبته العجوز ، فقال و هو ممسك بتمثالين من الشوكولا لسانتا كلاوس ، ثم اردف
ـ نعم أيتها السيدة ، انا مسلم ! كيف خمنت ذلك ؟
ـ أوه ، من لحيتك ، و لون بشرتك ، خمنت أنك عربي مسلم !
ـ أصبت أيتها السيدة ، أنا مغربي مسلم ، كيف حالك أيتها السيدة ؟
قالت و هي تتوكأ على عكازها :
ـ الحمد لله ، يسعدني جدا أن يتساقط الثلج هذا العام ، لأنني لا أتخيل أعياد الميلاد بدون ثلوج !
ـ أوه نعم ، جو جميل حقا ، رغم قساوته شيئا ما !
ـ سوف تتعود أيها الشاب ! اعذرني على تطفلي ، فسؤالي كان من أجل أنك تمسك بتمثالي سانتا كلاوس ، و تعجبت أن السلمين يفعلون هذا !
ـ و ما العيب في هذا أيتها السيدة ؟ قال مبتسما !
ـ كلا لا عيب في ذلك ، فقط لأني قرأت أن المسلمين لا يحتفلون بأعياد الميلاد !
ـ صحيح أيتها السيدة ، و أنا لم أكن أنوي شراءهما من أجل الإحتفال ، أوه ، أو ليس كل الإحتفال ، لأني كنت أود الإحتفال ببطني الليلة ، فهما من الشوكولا التي أحب
ضحكت السيدة العجوز ثم أردفت :
ـ متشرفة بمعرفتك أيها الشاب ، أنا ريغينه
ـ و أنا مهدي يعقوب ، نادني جاكوب !
ـ حسنا يا جاكوب ، هل تدرس هنا !؟
ـ نعم سيدتي أنا أدرس في الجامعة المقابلة !
ـ شيء جميل أن نرى أجانب يبنون ألمانيا يدا في يد معنا نحن الألمان !
ـ يسعدني كثيرا أيتها السيدة ، أنك لست عنصرية !
ـ أوه ، إطلاقا ، ألمانيا ليست فقط للألمان ! ألمانيا بلد مضياف ، و قليل من أهله ينتهجون العنصرية تجاه الأجانب !
لا يدري لماذا اتجه فكره مباشرة نحو العمارة التي فيها كان يقطن ، يدق على باب السيدة إيديلتراوت دقا عميقا ، حتى شرد ذهنه ، فجذبه صوت السيدة ريجينه إلى الواقع مرة أخرى
ـ سيد جيكوب !
ـ أوه عذرا سيدتي ، يبدو أنني جلت بخاطري إلى مكان آخر ! هل لي أن أساعدك بشيء ؟
ـ كلا هذا فضل كبير منك ، أتيت هنا فقط من أجل تبضع بعض الأشياء ، أنا أقطن في العمارة الكقابلة مع ابنتي !
ـ جميل أن يعتني الأبناء بآبائهم ، شيء جميل هنا في المانيا !
ـ أيها الشاب ، لا يزال هناك أخلاق في هذا البلد !
ـ صحيح ! سوف أستأذنك سيدتي ، أتمنى أن أراك مرة أخرى هنا !
ـ و أنا أتشرف بمعرفتك سيد جيكوب ، ليلة سعيدة !
ـ ليلة طيبة أيتها السيدة !
توجه نحو رفوف المواد اللبنية ، فابتاع بعضا من حليب ، و بعض اليوغورت ، و أضافهما إلى قائمته التي ضمت الشوكولا و بعض الخضار ، ثم اختار من الفاكهة إجاصا ، دفع ثمن مشترياته ، ثم خرج ، استقل الميترو قاصدا عمارته التي فيها يقطن ، غير أنه أحس بألم ضرسه يباغته ، و كانت بدايتاته لا تبشر بخير ، بل تتوعده بليلة بيضاء ، فأخفى هواجسه في قلبه ، و وطن النية على تناول أدوية مسكنة للآلام في المنزل ، و تمنى على الله أن لا يضطر إلى زيارة طبيب الأسنان ، الذي لا يحب أبدا زيارته ، خاصة بعد التجارب المتعددة له معه في بلاده !
بدت البنايات المتسارعة بسرعة الميترو، أشبه ، بدببة قطبية في سباتها الشتوي ، غطت الثلوج قرميدها الأحمر ، و اشتعلت الأضواء داخلها ، في إشارة إلى استمتاع ساكنيها بالدفئ الذي يخلق السعادة في القلوب !
دخل عمارته ، و ما إن فتح باب العمارة ، و خطى خطوات إلى الداخل حتى خرجت السيدة إيديلتراوت من منزلها ، كقط عجوز ثم قالت :
ـ تأخرت هذا المساء على غير عادتك يا جيكوب !
و كانت مباغتتها قد أدخلت في نفسه رعبا صغيرا ، فتراجع في حركة لا إرادية مضحكة إلى الوراء و قال :
ـ أوه سيدة إيديلتراوت ، لقد أفزعتني !
ضحكت السيدة إيديلتراوت ، و هي تقول وسط ضحكاتها المتتالية :
ـ لقد رمقتك من النافذة و أنت تدخل ! أنت تعرف أنني امرأة عجوز ، و لا شيء يسليني في مثل هذا الشتاء البارد ، فأجل أمام النافذة أتفرج على الناس و المارة و السيارات !
ـ أوه آسف سيدة إيديلتراوت ، أعدك أن أجالسك في يوم عطلتي !
ـ مرحبا بك أيها الأجنبي !
و كانت شبه علاقة وطيدة قد بدأت في التكون بينه و بين السيدة إيديلتراوت ، علاقة لم يفهم مغزاها ، رغم نفورها البين منه كأجنبي ، أحس نحوها بعاطفة من يحنو على مريض باغته في طريقه ! كانت السيدة إيديلتراوت فعلا سيدة عليلة ، تعاني من الوحدة ، كما تعاني الصحراء ضربات الشمس الغادرة في أيام الصيف ! و إنه كان ليحس في دواخلة ، بحاجة هذه المرأة العجوز إلى جليس يؤنس وحدتها ، و يتستمع إلى حكاياتها التي لا تنتهي ، هذه السيدة التي جمعت في دواخلها عقود كثيرة بطعم التأريخ ! و إنح حتى في مناداتها له بالأجنبي كان يحس طعما لها بطعم الفرح بلقاء شخص ثرثار مثله ، أكثر مما يحص داخلها بالعنصرية !
ـ أجنبي مرة أخرى سيدة إيديلتراوت ؟ قال لها في عتاب مبطن !
ـ أليست هذه الحقيقة ؟ ألست أجنبيا عن ألمانيا .
ـ بلى ! و لكني إنسان له أحاسيس ، و يحب جدا أن يتحدث إليك أيتها السيدة ! و الأهم من هذا كله أنه لا يخاف منك !
ـ ثرثار أنت يا جيكوب ! قالت مبتسمة !
كان ألم ضرسه يزداد بتسارع الدقائق ، فقال لها :
ـ سيدة إيديلتراوت ، أعتذر منك ، علي الذهاب الآن ، ضرسي يؤلمني ، و لا آمن على نفسي أن أقصد طبيب الأسنان لذا على الصعود الآن !
ـ أوه ، أتمنى لك الراحة يا جيكوب ، هيا اذهب ، خذ مسكنات ألم ، لعل الأمر سيزول !
ـ أتمنى ذلك فعلا !
فتح باب شقته ، و تناول مسكنات للألم كان قد ابتاعها من الصيدلية آنفا ، و حمد الله أن فعل ذلك ، فقد كان الوقت ليلا ، و جل الصيدليات كانت مقفلة ، و كان عليه أن يبحث عن صيدلية مداومة ، لولا أنه ابتاعها قبلا !
مرت الساعات ، خف الألم قليلا ، فاستغل الفرصة ، و أم المطبخ ليمارس هوايته المفضلة ، و من أجل أن ينسي نفسه الألم ! أكل ، صلى ، ثم نام ، و لحسن الحظ ذهب في نوم عميق ، رغم بقايا الألم الذي سببه له ضرسه !
في الساعة الثانية صباحا ، استيقظ على وقع ألم شديد في ضرسه ، لم يكن تخمينه خاطئا في الميترو ، علم بينه و بين نفسه أنه يجب عليه أن يذهب إلى طبيب أسنان غدا صباحا ، إلا أن الألم كان شديدا جدا عليه حد البكاء ، لم يدر إلا و هو يرتدي ملابسه ، و يأخذ حافظة نقوه ليجد نفسه في الشارع ، يبكي من فرط الألم ! رباه ، إنها الساعة الثانية و النصف ، لم يبق للميترو من مداومة ، و علي أن أنتظر ساعة و نصف الساعة من أجل بدايته من جديد ! خاطب نفسه كأحمق ، ثم خطى خطوات بائسة ، دموعه تنساب من فرط الألم ، لا يدري ما يفعل ، و لا أين يتجه ، مركز طب الأسنان المداوم بعبد نسبيا عن مكان إقامته !
في عز تفكيره ، قطع حبله صوت جهوري قائلا :
ـ هل أنت بخير أيها الشاب ؟
ـ أوه نعم بخير أيها السيد !
و كانت سيارة الشرطة قد وقفت موازية له ، و خرج منها هذا الشرطي الذي خاطبه ، فوجه كشافه إلى وجهه ثم سأله قائلا بصوت انخفضت قوته :
ـ لماذا الدموع أيها الشاب ، هل تواجهك مشاكل ؟ قل لي أنا هنا من أجل مساعدتك !
ـ ضرسي يؤلمني يا سيدي ، و لا أجل وسيلة للنقل الآن !
ـ هل معك أوراق هويتك ؟
ـ تفضل سيدي ، ناوله جوازه ، فتسلمه الشرطي ، ألقى عليه نظرة بكشافه ، ثم سلمه لزميلته داخل السيارة التي كانت هي من يقودها ، أدخلت معلوماته في حاسوب صغير متصل بقاعدة البيانات في السانترال ، ثم أعادته له ، مخبرة إياه أن كل شيء على ما يرام ، و أنه قانوني في ألمانيا ، فتوجه إليه بالخطاب !
ـ هيا اركب أيها الشاب سنوصلك إلى مركز طب الأسنان !
ـ أوه هذا جميل جدا منك سيدي !
لم يتردد لحظة في الدخول إلى سيارة الشرطة لأول مرة في حياته ، أخبرت الشرطية القائدة مركز الشرطة بما حدث ، و أخبرتهم بوجهتها ثم قصدت المركز، انتابته ضحكة تفرض نفسها عليه ، فضحك نصفها ، فقالت له زميلته :
ـ لماذا تضحك يا سيد مهدي !
ـ عذرا ، لم أقصد الإساءة ، غير أنها المرة الأولى التي أركب فيها سيارة شرطة سواء هنا في ألمانيا أو في بلدي !
ضحكت الشرطية ثم قالت :
ـ على الأقل لم تركبها متهما ! يجب أن تعرف أن الشرطة هنا في ألمانيا ليست فقط من أجل إلقاء القبض على المجرمين ! الشرطة هنا في خدمة الشعب !
ـ علمت هذا نعم ، في ألمانيا ، شيء جميل جدا أن تكون الشرطة فعلا في خدمة الشعب !
ـ هل يختلف الأمر في المغرب سيدي ؟
شعر بحرج داخلي مداهم ، ثم رد :
ـ الحقيقة يا سيدتي ، أن شخصا في مثل حالتي في بلدي ، لن يجد سيارة شرطة أصلا تتجول في الليل إلا نادرا فما بالك بإيصاله إلى المستعجلات ! على العموم ، دعينا في ألمانيا ، هذا البلد الجميل ! و حتى لو وجدت سيارة شرطة في بلدي لن أركب فيها ، لأن مجرد نظرات الشرطي إليك تجعلك تعتقد أنك قد قتلت شخصا للتو ، طبعا لا نعمم !
شعر بضحكة مبطنة أخرجتها الشرطية ، محاولة أن تخفيها عنه مراعاة لمشاعره ، فأدرك ذلك ثم قال :
ـ لا عليك سيدتي ، الأمر مدعاة إلى الضحك فعلا
قالت و هي تبتسم :
ـ و كيف تجد الحياة هنا في ألمانيا .
ـ جميلة جدا! بلد يحترم الكرامة الإنسانية بشكل كبير جدا ، و يوفر حتى للأجانب كل ظروف الراحة
ـ ألمانيا ليست فقط للألمان سيد مهدي !
ـ هل تعلمين أنني أسمع هذه الجملة اليوم للمرة التانية ؟ نعم صحيح ، ألمانيا ليست فقط للألمان !
ـ ماذا تدرس أيها السيد ؟
ـ أدرس الصحافة ..
ـ لغتك الألمانية في تحسن مستمر ، و لا يظهر عليك أثر التخريب الذي يقوم به كثر من العرب هنا !
ـ أشكرك سيدتي ، نعم ، يجب علي أن أحسن من تواصلي باللغة الألمانية ، فأنا أحب هذه اللغة كثيرا !
ـيسعدنا كثيرا سماع ذلك ! على الأقل أنت عايشت الآن واقعا أن ألمانيا ليست هي هتلر و ليست عنصرية !
ـ أوه سيدتي ! لكل بلد تأريخه ، و ألمانيا اليوم ليست هي ألمانيا بين الحربين ! اهنئي بالا ! لن أكذب في بلدي و أخبرهم أن ألمانيا بلد عنصري ، قال ضاحكا !
ضحك الثلاتة بشكل جميل ، و لم يحس أبدا طيلة الطريق بانه في سيارة شرطة ، تحدث مع الشرطيين ، بشكل مسترسل ، حتى كاد أن ينسى المه ، حتى لاح له المركز ، فقال له الشرطي
ـ ها أنت وصلت إلى المشفى ، هيا أيها الشاب ، نتمنى لك كل الصحة و العافية ! بعد أن تنتهي ، ستجد الميترو قد بدأ رحلته الصباحية
ودعهما ، و شكر لهما صنيعهما الذي حفر في ذاكرته و قلبه إلى الأبد ، و لم يتحرك من مكانه حتى غابت السيارة عن عينيه ملوحا بيده مودعا …
دخل إلى المشفى من باب المستعجلات ، فكان أول ما استوقفه ، ذلك المنظر العجيب النظير المرتب الذي عليه حالة المستعجلات في المانيا ، كانت الكراسي التي صفت من أجل الإنتظار من النوع الفاخر ، زيادة على خلو الجو من رائحة الأدوية و رائحة الموت التي توجد في مستعجلات بلاده الحكومة ، و التي يكون الداخل إليها كالداخل إلى مكان خرب ، للتو عانى من قصف أو زلزال ! يكون المصابون فيه كمصابي الحرب ! إن الداخل إلى المستعجلات في بلاده كالداخل إلى مكان برائحة الموت ! كل شيء يدل على النهاية فيها ، حتى نظرات الأطباء ، هذا إذا كان هناك أطباء أصلا !
ألقى نظرة شاملة على ردهة المستعجلات و بهوها ، و أغمض عينيه ، و شعر براحة لذيذة ! كيف أن هؤلاء الألمان لديهم كل هذه النعم ، و كل هذه الراحة في مستعجلاتهم ، و كانت المقارنة صعبة جدا بين البلدين ، لأن الناظر إلى مستعجلات بلاده ، و مستعجلات الألمان ، سينجذب تلقائيا و فطريا إلى المستعجلات الألمانية التي ترقد فيها الكرامة الإنسانية و تتخذ منها مسكنا لها !
أخرجه من تفكيره صوت الممرض المداوم :
ـ سيدي : هل أنت بخير ؟
ـ أوه ، نعم سيدي بخير ، فقط …
ـ الم الأسنان ، دعني أخمن !
ـ أوه نعم سيدي ، ألم في ضرسي !
ـ لا عليك سيدي ، هل لك أن تمدني ببطاقة الأمان ؟
ـ نعم تفضل !
ـ شكرا لك سيدي ، اجلس و انتظرني قليلا ، لن يستغرق الأمر كثيرا ، هناك أطباء مداومون كثر هنا ، و سنسهر على راحتك ما أمكننا !
تركته كلماته كالمبهور ، كمن رأى في السماء طبقا طائرا ، رباه ما هذه المعاملة الإنسانية التي يعاملها هؤلاء البشر في هذه المجرة ! مجرد الدخول إلى هذه المستعجلات يشعرك بالراحة و الإطمئنان ! حتى لون الصباغة المختار المطلية به الجدران ، يضفي على النفس راحة لذيذة !
ـ عاد الممرض مبتسما ، يحمل في يديه ورقة ببياناته ، و بطاقة الأمان ، و سلمهما إياه قائلا :
ـ أرجو أن تتبعني سيد مهدي ، سأذهب بك إلى طبيب ليعالجك !
ـ شكرا جزيلا لك سيدي !
تبعه ، في ردهة المستعجلات الطويلة ، و عرجا على اليمين ، ليدخله إلى غرفة الفحص ، التي كانت مرتبة بشكل جيد ، و بأجهزة حديثة ثم بطبيب شاب مبتسم ، سلم عليه ، و استأذن الممرض وودعه ، ثم التفت إليه الطبيب و سأله :
ـ ما الذي تشتكيه سيد مهدي ؟
ـ ضرسي يا سيدي يؤلمني كثيرا …
ـ متى بدأ الأمر ؟
ـ بالأمس مساء ، تناولت أقراصا مسكنة ، و لكن الهدوء لم يدم كثيرا …
ـ هممم ، حسنا أرني ، افتح فمك ارجوك ! هممم نعم ، هناك التهاب ، ناتج عن تآكل الحشوة ! يلزم تغيير الحشوة ، حسنا سأفعل ما يجب فعله !
لم يقدر على الشكر و الرد ، فاكتفى بحركة من عينيه شكرا ، ثم قال له الطبيب الذي عاد من الغرفة المجاورة بإبرة :
ـ سيد مهدي ، سوف تشعر بوخزة صغيرة ، و سيختفي الألم ، ثم سنعالج ضرسك ! هذه ابرة بنج ، ستشعر بعد ثوان بالراحة ، هيا : واحد إتنان …
شعر بتخدير موضعي يسري مكان ألم ضرسه ، حتى اختفى الألم شيئا فشيئا تماما ، و كانت فترة الالعشر دقائق التي منحها الطبيب إياه من اجل أن يوطن البنج مفعوله ، فرصة له من أجل أن يدخل في مقارنات لا منتهية بين معاملات الأطباء أو أشباههم في مستعجلات بلاده ، و بين تعامل الأطباء هنا ! الطبيب الشاب ، ليس في وجهه ما يدل على شكواه من سهره طيلة الليل من أجل الحرص على راحة من قادهم القدر إليه مثله ، مجرد ابتسامته في وجه مرضاه ، يشعرهم بالراحة و الغبطة !
ـ حسنا سيد مهدي ، سنبدأ الآن …
استغرق الأمر عشر دقائق من أجل تنظيف الضرس و عمل حشوة جديدة ، ثم ودعه الطبيب متمنيا له شفاء عاجلا ، بعد أن كتب له في وصفة علاج على أقراص مسكنة أقوى من تلك التي يمتلكها في منزله ، و كان يريد أن يخبره أن ابتسامته فقط و تعامله يمثلان نصف العلاج غير أنه خجل ! ودعه بابتسامة شكر ، و حمد الله على وجوده في هذه البلاد التي تحترم الإنسان بشكل عام !
ركب الميترو ، و اتجه إلى منزله ، و استلقى على سريره ، و هو يحمد الله مجددا أنه متواجد ها هنا ، في بلد يقدس معنى : الإنسان !
mahdy jacob
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة