الصورة التي لم تطلع حلوة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الصورة التي لم تطلع حلوة

  نشر في 14 ماي 2017 .

نبدو جميعا ً من الخارج متشابهين ، الظلال والحركات والايماءات ، حد أن البعض قد يسقط من شعاب الذاكرة مع وتيرة الزمن المتتابع ، نصطدم باحجار النسيان ، كل شيء يمضي لاهثاً نحو الهوة السحيقة المسماة الماضي ، ولا يبقى الا ما نستميت لنُبقي منه شيئاً ، ولو صورة ..

لا يهم كيف كنا ، وكيف صرنا ، نريد أحياناً فقط أن نجد مما رحل أثراً يثبت أنه كان ربما هنا ، وربما كان أجمل مما نعتقد ، لهذا يبتسمون ربما في الصور ؟! حتى لا يعلق مع الصورة المترجلة نحو المستقبل شعوراً يشوب الملامح الجميلة ، نحن نريد الملامح فقط ، تأملها والحفاظ عليها ، حين يطويها الزمن ..

" طلعيني أجمل في الصورة "

الفجوة بين ما نحن عليه وما نعتقد وما نريده تجعل الاشياء لا تشبه نفسها ، ولا نحن حتى ، المسافات الآمنة لصناعة الصورة دواخلنا عن الأشخاص والأشياء تشوه معالمها ، ولا ندري أين يجب أن نكون وما يجب أن نتوقعه لنرى الأمور كما هي ..اننا نعاني لكي نصل ، نريد الذكريات أن تبدو أجمل مما عليه في الواقع ، حتى نحبها , ونحب أنفسنا في مستقبلنا المأمول..

حين ينسى الانسان ملامح من يحبهم ، ولا يعود بامكانه رؤيتهم مجدداً ، فإن أي صورة مهما بدت باهتة ومشوشة ومهزوزة تفي بالغرض ، يكفي أنها تحفظ ما خارت قوانا على حفظه . .وستكشف حينها أنك لست مضطراً لأن تبتسم وتستعد للصورة لتبدو جميلة ، ما يبقى هو ما يشبهك ، عفويتك ، حضورك ، وشيء من اللون الذي لا ينعكس الا من خلال وحدك ..

3... 2 ... 1

"لاتضعي نفسك بإطار، وتحاولي أن تشبهي الصورة المتخيلة. كوني فقط أنت مثلما أنت" .. يقولها المصور قبل كل عد تنازلي ، لم تحب الفتاة الصغيرة الصورة التي إلتقطها لها ، فهي تريد أن تشبه أمها في صورة بطاقة العائلة ، أبدى اعجابه بصورة لنصف وجهها البريء في لحظة غضبها من توجيهاته ، لكنه طبع الصورة لتحتفظ بها ، وضعتها جانباً ، مرت 34 عاماً ، تنبش الصناديق المهملة فتصادفها هذه الصورة الخالية من اللون الا ما توحيه روح الصورة ، تؤطرها وتضعها بقرب سريرها ،لا تنام الا وهي تتأملها باكية ، تتمنى لو أن كلام المصور قد ظل معها يتشبث بأيامها ، حين أهدرت معظم طاقتها في محاولة التصرف بما يلائم الصورة التى صنعتها لنفسها .. ولهذا لم تكن لديها الطاقة الكافية لأن تكون نفسها .. ولا أن تكون شيئاً .

‏"ماذا لو كان البرواز لا يشعر بالألفة حيال الصورة التي يحملها؟"

ستكبر،ستتزوج من امرأة لا تعني لك شيئا تقريبا، غير كونها تستجيب لشروط المرأة النمطيّة الوفية، ابنة العائلة المحافظة،التي تستطيع تنظيفَ البيت و تربية الاولاد بالاضافة الى تلبية ما تحتاج،رغبتكَ التي ستذبلُ سريعًا حين ترى زوجتك تتحوّل الى كتلة بشرية غير واضحة المعالم.

ستكبرينَ أيضًا، و تتزوجين رجلاً لا يمتّ بصِلة لك. ستتركين حبيبكِ يترنّحُ وحيدًا، لترضي العائلة و المجتمع. سيقوم زوجُكِ بارضاء كل متطلّباتك، و متطلّباتهم،من بيت و سيارة و بهرجة اجتماعية،أشياء مؤقتة تمضي سريعاً. سيتحوّل بعد فترةٍ وجيزةٍ الى كتلة من الجليد البارد، لا يرى فيكِ غير شريكةٍ فرضتها سيرورة الأمور، في اطار عقد زواج، ربما شركة بشرط جزائي كبير.

ستكبرون جميعًا، و تفرحون حين تحصلون على عملٍ، و تلهثون وراء السيارة و القرض السكنيّ و عُلب الحليب و الحفّاظات و لوازم مدرسة ثم جامعة ، ثمّ تغرقون في عيادات الأطبّاء و الحقن والحبوب للتحول في نهاية الأمر الى أجسام مترهّلة تعيسة، ثم تكتشفون، في نهاية المطافِ ،متأخّرين، أن كما أمْضيتم حياتكم تتبعون السّراب، أنّكم تركتُم جميع التفاصيل الرّائعة التي تحوي في ثناياها حياتكم الحقيقيّة، التي لم تعيشوها.

ثمّ ترحلون، و يلفّكم النسيان،جميعًاً .. الا من صورة على جدار المنزل ، تشبه أناس يبدون سعداء .. ولم يكونوا يوماً هنا !


الوحيد الذي قد لا يمتلك صورة لنفسه ، رغم آلاف الصور التي تزهو بها جدران بيته ومكان عمله لعشرات السنين هو المصور ؛ لا زال يكفيه أنه من يحدد ما تبدو عليه الصورة، يرسم حاضر كل هؤلاء في ابهى حلة ويرسله للمستقبل ، يترك فيه شيئاً يعيش للأبد ، يعلم أنه يصنع التفاصيل خلف كل هذا وليس من يقف أمام الكاميرا .. إنه يعيش حياةً أطول في وجوه كل أولئك المبتسمين ..



د. نورهان عزت

طبيبة أسنان وكاتبة فلسفية 

https://www.facebook.com/lam3at.zomorod


  • 4

   نشر في 14 ماي 2017 .

التعليقات

راوية وادي منذ 7 سنة
رائعة حقاً لما فيها من تصوير دقيق للأحداث و ترجمة للمشاعر .سلمت يداك
2
نورهان عزت
سلمك الله ، شكراً لتواجدك ، وأسعدك برأيك ونقدك دائماً

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا