الوفاء هو الانتقال من حان زغبانيا إلى حان الله - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الوفاء هو الانتقال من حان زغبانيا إلى حان الله

صب حان الله

  نشر في 19 شتنبر 2020 .

وفاء لروح الفيلسوف كمال الزغباني

يبدو أنّ هذا الأرق ليس أمرا عارضا سيزول بزوال أسبابه. ببساطة لأنّ أسبابه لن تزول. بدأت أوقن أنّ هذا التحوّل في علاقتي بالنّوم جاء هذه المرّة ليستمرّ، ليستقرّ. تعوّدت في السابق أن أهزم الأرق بحيلة جُـــرِّبَتْ فصحّتْ، حتى جعلتُ منها نصيحة لا أبخل بها على أصدقائي في موضوع مقاومة الأرق... إذا جفاك النوم، لا تعانده، لا تصرّ على استقدامه... تجاهَلْهُ، قُلْ له طز فيك، ورحّبْ بالسهر، افتح عينيك جيدا، انصرف إلى القراءة أو الكتابة، أبحر في الأنترنيت، اشغل نفسك بأيّ شيء يصرف تركيزك عن النوم. مُــدّ للنّوم لسانك ساخرا وغنّ له في تحد وشماتة "... ما أطال النوم عمرا ولا قصّر في الأعمار طول السّهر" وسترى كيف يأتيك ذليلا خانعا يغازل جفونك، يروّضها، يتوسّل إليها أن تقبل به، طالبا المعذرة... قل له ما أرخصك أيها النوم وما أذلّك، ثمّ اركبه، أبحر فيه ملء جفونك...

الأمر مختلف هذه المرّة. والسبب أنّني منذ خلد كمال إلى نومته الأبدية بعد سهر اختياري طوال 55 سنة، وأنا أحسب ما ضاع عليّ، علينا، على تونس، على الوجود من يقظة خلاّقة... أفهم أنّه من حقّك يا كمال أن تتدارك ما فاتك من نوم، من حقك أن تستريح ككل كائن بشري. ولكنّك عوّدتنا حدّ الإدمان على قراءة نصوصك التي تكتبها بالليل ونحن نيام... أحس بالوحشة والرّعب عندما أدرك أنّه عليّ أن أكمل بقية مشواري بدون نصوص من كمال... كيف سأستطيع؟ أي طعم لحياتي؟ من أين ستأتيني تلك التخريجات اللغوية والتوليدات المفاهيمية التي أجدها في نصوصه فتضحكني وتنشط خلايا دماغي؟

أحيانا أتذكّر ما قاله لي شفيق الحكيمي الذي رحل مبكرا هو الآخر من أنّ الفنّانين يبدون للآخرين كأنّما يموتون باكرا، بينما كلّ ما في الأمر أنّهم يختارون تقسيم وقتهم ما بين النوم واليقظة على نحو مغاير للآخرين. ففي حين يقسم الإنسان العادي حياته إلى أيام نصفها نوم ونصفها يقظة، يختار الفنّان أن يقسّم حياته إلى كتلتين كبيرتين: يقظة كاملة أوّلا ثمّ نوم كامل ما بعده صحو. حتى أنّ شفيق حذّر حبيبته وهي تفاتحه في موضوع الزواج بنبرته الكافية المميّزة: "ها بنت الناس، نا راني سهّار ليل، باش تعرفي علاش قادمة"...

تخفّف عني هذه التخريجة الشفيقية ألم غياب كمال وسنان وشفيق ومحمد عبد اللاوي ومحمد الصغير أولاد أحمد وعبد الوهاب الجملي وعاطف بلعربي وبلقاسم لويحقي وخلدون بن صالح وغيرهم من أصدقائنا الذين رحلوا مبكرا جدّا وما أكثرهم، فأقول أنّهم اختاروا أن يسبّقوا شطر اليقظة من حياتهم على شطر النوم، فلمّا صرفوه إلى آخره، هاهم ينامون إلى الأبد كي يأخذوا نصيبهم من الرّاحة كما كنّا نفعل أثناء سهرهم... لماذا ننكر عليهم حقهم الطبيعي في الراحة؟ ولكن هل يمكننا أن نحب دون أن نكون أنانيين؟

كنت دائما أسترق النظر إلى كمال لأطمئن على صحّته من فرط السهر فأتعجّب من قدرة جسده على الصمود والمقاومة. يصل الليل بالنهار وهو لا يتوقف عن الشرب والتدخين والكتابة والتفكير دون أن تبدو عليه أي علامات تعب أو إرهاق... لا أذكر أنّه مرض أو اشتكـــى من وجع أو زار طبيبا.

حدّثته مرّة عن ضرورة قراءة حساب للصحّة وأخذ نصيب من الرّاحة، فأجابني بأن أهداني رواية la peau de chagrin للروائي الفرنسي أونوريه دي بلزاك...

لمّا فرغت من قراءتها، فهمت جوابه: "الخوف من الموت يمنعنا من الحياة ويضيع علينا وقتا ثمينا... الحياة جُعِلـــتْ كي تُعاش، كي تُصْرَفَ لا كي تُدَّخَـــرَ وتُكْنـــزَ كأموال البخيل، تماما كذلك الجلد المسحور في الرواية، جلد يتقلّص كلما حقق لك أمنية. فإمّا أن تصرفه في تحقيق أمانيك حتى ينتهي، وإمّا أن تخاف عليه من النفاذ، فتحافظ عليه كاملا جلدا لا يصلُحُ لشيء حتى لوظيفته الأصلية، تحقيق الأماني".

أقول في نفسي مرّت الآن ثلاثة أيام على خلود كمال إلى الراحة، وهذا معناه أنّه لم يكتب خلالها شيئا، وأنّه لن يكتب شيئا على الإطلاق في المستقبل... سننبش في ما تركه لنا من مخطوطات ونسارع إلى نشرها في لهفة وعجلة المدمنين. ولكنّنا سنصطدم بعدها بالفراغ...

قد يلجأ كثيرون منّا إلى اجترار ما قرأوه سابقا بعين فاحصة، عساهم يجدون بقايا متعة أو يلتقطون معان مرّوا عليها دون أن ينتبهوا إليها في قراءتهم السابقة... وأظنّني من هؤلاء. لأنّني أعرف أنّ كمال يدسّ بين الفكرة والفكرة نواة فكرة ويتركها تبرعم وتطلّ برأسها في رأس قارئه، على نفس طريقته في دسّ بذور النبات بين حبات تراب زغبانيا.

كان أبيقوريا لذائذيا يطلب اللذة والجمال ولا يرتوي منهما... لذة النبيذ ولذة التبغ ولذة الجنس ولذة الموسيقى ولذة العطر ولذة الفكرة وهي تنبثق في الدماغ كبذرة تشق التراب لتستوي نبتة ولذة العبارة، ولذة الشجاعة ولذّة الاختلاف... كم كان يحلو له كلّما انتشى أن ينتصب راقصا عاريا كالحقيقة... ولعلّ ذلك التوقيع الذي دأب أن يختم به تدويناته الفايسبوكية هو أفضل ما يعكس روحه الأبيقورية الظمئى أبدا... "صب حان الله"، فعل أمر يخاطب به حان الله حتى يطفأ ظمأه إلى اللذة أو على الأقل ينسيه قبح الواقع. تدرّب على حياة الجنّة في جنّة زغبانيا، قبل أن ينتقل للإقامة في حان الله، حيث لا ظمأ ولا قبح وخصوصا لا تلفزيون...

عاش كمال معنا خمسا وخمسين سنة. وسيعيش الآن فينا بما تركه لا فقط من نصوص ولكن خصوصا من أسلوب حياة متفرّد... كان كما يقول عشيري سنان من ذلك النوع الذي يعيش كما يفكّر. بعد خمس وخمسين سنة من اليقظة المستمرّة، حان الوقت كي يوفي بما عليه من ديون النوم والراحة المؤجلة تجاه جسده المنهك. لذلك كمال نائم لا أكثر ولا أقلّ، نائم كما ينام كلّ إنسان طبيعي... ولكنّني كالطفل لا يتحمل رؤية أمه نائمة. يظنها تركته ويخاف أن لا تستيقظ فيظل يبكي ويصرخ حتى يوقظها، إلا إذا غلبه النعاس فأغمض عينيه وأراح رأسه على صدرها في اطمئنان.

بنومك تحرمني يا كمال من النوم وتجبرني على سهر أنا عاجز على تأثيثه بمثل ما كنت تفعل...

ما أحقرك أيها النّوم وما أبشع انتقامك ممّن يتجاهلك ويهجرك...

صب حان الله


  • 2

   نشر في 19 شتنبر 2020 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا