كاتبٌ قارئ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

كاتبٌ قارئ

"وما أملك إلا أن أصارحك بأنى ما كتبت قط إلا لنفسي وحدها، ثم لا ألبث أن أعرض عليك ما أكتب -لا لأعلمك أو أنفعك، بل لتعرف كيف يفكر إنسان مثلك!"

  نشر في 27 أبريل 2023 .


كلمات قالها شيخ العربية ليعمل على تفتّح ذهن القارئ ،كأنّه يحاول أن يلقي عليه مسؤولية التلقي و تبنّي الرأي ،فالقارئ يظنّ في البداية أنّه هو الباحث عمّا يقرأ وهو الذي يستفز الأفكار المغمورة في طيّ صفحات الكُتّاب والمؤلفين ،وفي ذلك شيء كثيرٌ من الحقيقة ،فإذن لما لا يتحمّل مسؤولية نبشه عن تلك الأشباح المستكينة في عقول مبدعيها وليفعل شيئاً ما  حيالها ،كأن يبثّها في من حوله لعلّها تجد ملجأً جديداً يمكنها أن تتناسخ من خلاله

لست مجرّد متلقٍستعيد تدوير  الفكرة جزئياً أو كلياً ،إثباتاً أو نفياً ،بل أنت صانع. أنت مبتكر ،وما تصنعه ،ما تبتكره يتوقف على مهارتك ،على إبداعك.. سيفاجؤك أنه يمكنك صنع ذلك المفكر ..ذلك الكاتب ،ذلك الأديب الذي تفتخر بأنك من قرّائه أو من متابعيه ،أو من المؤمنين برؤيته ودعوته،فأن يشغلك أحد ما بالإستماع إليه دون الناس جميعا فتسغي له سمعك ،ثم لا تلبث أن تتعلق به فتتحين موعده الذي واعدكه لتسمع لجديده ،إنه عمل جبار بالفعل من كليكما كاتباً وقارئاً

  قال الشيخ محمود شاكر كلمته تلك في زمن كان قرّاؤه قلّة لكنهم كانواْ نخبة فحُق له أن يتوجّه لهم بها ،بثّها في مجتمع قليل لكنّه فعّال مغلق لكنّه خلّاق،مجتمع رافض ثائر ،لكنه أصيل محافظ ،يملك كثيراً مما يفتقده مجتمعنا الذي نعيش فيه، لكنه لم يمتلك ما شاع بيننا الآن، الكثرة والإبتذال ،واحتقار الموجود  فقط لأنه في المتناول وسهل المنال ..

في مقارنة تبدو فجّةً و وقحة بين رصيد كلٍ من القارئين …قارئ القرن الماضي و قارئ هذا القرن،الذي يظن أنه يملك من المحتوى المعرفي الذي يشهد تضخماً غير مسبوق  ما لم يملكه من سبقه ،فقط بسبب الكم الهائل من التدفق المعلوماتي عبر قنوات غير محصورة عددا و وجهات، في ظاهرة غريبة مخيفة ..تظهر الفوارق جلية فيها …

حيث الكلمة مكشوفة مبتذلة منقوصة القدر ،لا لشيء إلا لأنّها معروضة دون طلب ومقتحمة دون استئذان ،تقرع الآذان في كل مجلس وتسد الأفق في كل منظر ،غير آبهة لتقييم أو تقويم ،دون انتظارمراجعة أو نقد ، هي فقط مطروحة في كلّ زاويةٍ و ركن تُوزِعُ بالتساؤل ما المغزى من كل هذا النشر لكل ما يكتب ،ما الغاية المرجوة من هذا الطوفان الصاخب الغامر من المنشورات والأوراق والصفحات 

..يبدو أننا مجتمع إنساني مهوس بالإستبراء من الجهل والأمية بلا مفهومٍ للكلمتين فهو يسارع الى حشد واكتناز المعارف الموسوعية التي تتوق إلى فهرسةكل شيء عن أي شيء دون عائدٍ علمي أو ثمرة مستحقة أو مرجوة ،فكأنّهاعلومٌ ثمراتها في تحصيلها لا غير ،لذلك صارت  الكتابة والنشر بهذه الوسائل الجارفة المدمرة كبراكين وفيضانات العهود الأولى لنشأة الأرض هي المتنفس الوحيد ،أوجده متلقواْ هذه الثقافةالحديثةكي يتخفّفواْ من كلّ هذا الثقل المعرفي،أو ليتنافسواْ منافسةً لطيفة تذكي نهماً آخر هو بديلٌ اضطراريٌ عن محصلة العلم الإعتيادية من تشكيلٍ للوعي وخدمة للصالح العام أو ربّما حتى القيادة والتي لن تُنال بمثل سطحية وسذاجة الوسط المعرفي السائد،منافسةٌ في مدى التشنيع بجهل الغير أو تخلفه عن مواكبة و مسايرة السائد العام على أفكار وأقلام الغوغاء المثقفة

لكن أين هي الأقلام الهادفة البنّاءة؟ ..هي أيضاً هناك في مكانٍ ما ،في زاويةٍ ما في متناول كل أحد ،ما تزال في سيرورتها المعتادة ..تعاني الفكرة وإرهاصاتها ،وتناقش المشكلة وأسبابها ،وتستقصي الحلول ونتائجها ،وتضفي إلى الكم المعرفي الراسخ منذ أول إنسان كمّا آخر ، مع تأكيدٍ فيزيائي على لفظة "كمٍّ"

مع ذلك يمكن  اتهامها بالغياب و فسح المجال وأنّى تدرك وقد أحدث النشر الفوضوي  ازدحاما إعلاميا قضى عليها و أغرقها في خضمه،وما من وسيلةٍ للفصل أو التمييز أو المتابعة،فضلاً عن الاكتشاف،وقد كان الاكتشاف سمة بارزة في وسط النخبة الأدبية في كلّ عصر،فما إن يظهر قلم جديد حتى تتلقّفه الأسماع عناية ونقداً وتقويماً وتثقيفاً ،فما يلبثُ حتى يُلتفّ  حوله ويصير له جمهورُ متابع قارئ بفضل من سبقه وبحسن سيرهم فيه حتى وإن كان بينهم ما بين الأقران من غبط أو غمط أحياناً

أمّا الآن على هذا الفضاء الغريب المستهجن فإنّ إبداع الإكتشاف أصبح أهم من اكتشاف الإبداع بحد ذاته ،كيف ذلك؟تلك الصنعة الخبيثة ،صنعة التلميع الإعلامي التي  ضاهت الإبداع الأدبي بكلّ فنونه وتفوّقت عليه ،فيكفي أي ناعق ظهورُه على أي منصة إعلامية شهيرة ويكفي أي تفاهة لاغطة  تحقيقمشاهدات مليونية لكي يفوزا بسبقٍ أدبي ويحوزا ثناء مبهراً ،  في سماجة مفجعة ووقاحة مفاجئة ،وإن كان ذا موهبةٍ يرجو فرصةً كفرص التافهين أولئك فسيساوم وسيقع ضحية الاحتكار الإعلامي طيلة حياته الأدبية أو سيناله التشويه إذا ما حاول التحرر

 وهكذا حدث للنقد البناء حتى صار لا يحسن إلّا المراءاة والمداهنة لمُتسمي الأدب النافذين وقرّائهم الوهميين أو أنّه غاب بالكلية جرّاء التنمر والهجوم على الأفكار الناقدة والبناءة الذي غدا سمة بارزة على كل منصة تدّعي الأدب إذا ما ظنّ ظانٌ حسن الظنّ أنها كذلك

 ذلك  النقاش و التداول الذي كنّا نسمع عنه في صالونات الأدباء الكبار في ما مضى حيث تتلاقح الأفكار وتتصادم التوجهات فتثير الهمم همم الأقلام ،فلا تصبح إلا وقد أثمرت وأثرت مقالاتٍ ونصوص تتلقّفها قراؤها نهماً وشغفاً فتزيدها إثراءً ،وتعيدها كرةً أخرى نقاشاً ونقداً وهكذا دواليك في حلقةٍ مفرغةٍ من إبداعٍ ونقدٍ ثم نقاشٍ ثمّ تولّد أفكارٍ وتلاقحٍ ثم إبداع،وتلك المجالس والصالونات هي ما يفتقده أدبنا وإبداعنا في قلب كلّ كاتبٍ وقارئٍ ،نجتمع فيها من أجل أنفسنا كي نحيا، فإذا بنا نحيي جيلاً طواه النسيان كجيل شيخنا شيخ العربية وشيوخه وإخوانه 



   نشر في 27 أبريل 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا