ولدت الأنتربولوجيا التربوية الأمريكية في أحضان الأنتربولوجيا الثقافية المعنية بمسألة التحويل الثقافي وهذا ما تبرهن عنه الأعمال المتنوعة للباحثين الأنتروبولوجيين في هذا المجال أمثال بواز وسبندلر وروث بنديكت Ruth Benedict، ومارغريت ميد Margaret Mead التي عرفت في عملها المعروف “سن البلوغ في الساموا” Coming of Age in Samoa في عام 1928 Margaret Mead (1928).
ومما لا شك فيه أن الأعمال والدراسات التي أجراها عدد من الأنتربولوجيين والتي نشرها سبندلر كان لها أكبر الأثر في استقلال هذه الأنتربولوجيا كعلم مستقل عن الأنتروبولوجيا الثقافية، ويعد كتاب سبندلر George et Louise Spindler التربية والثقافة Éducation et Culture (1955) الذي نشر في عام 1955 في طليعة الأعمال التي مهدت لنشأة هذا العلم واستقلاله لاحقا. ويلاحظ في هذا السياق أن الأعمال التي نشرها سبندلر Spindler وموري Murray وروزالي واكس Rosalie Wax لم تقف عند حدود الاهتمام بعملية التطبيع الثقافي، بل تجاوزت هذا المجال إلى دراسة اللامساواة في التعليم والتربية في ضوء العوامل والمتغيرات الاجتماعية التي أحاطت بالأطفال والتلاميذ في تلك المرحلة التاريخية، ولاسيما العوامل الإثنية والعرقية في الولايات المتحدة الأمريكية. وشهدت هذه المرحلة ولادة ما يسمى بأنتربولوجية المدرسة انطلاقا من النظر إلى المدرسة بوصفها مؤسسة اجتماعية، وقد أسس هذا الفرع العلمي الجديد تحت تأثير الاهتمام الكبير الذي أثارته أعمال سبندلر وكوكبة من رواد الأنتربولوجية الثقافية في ذلك الوقت. ويجدر بالذكر أن الموضوع الأساسي للدراسات الأنتربولوجية التربوية كان يتمحور حول دراسة التباين والفروق الثقافية بين المدرسة من جهة وبين السكان الذين يتحدرون من أقليات عرقية وإثنية.
في بريطانيا وفي الفترة الممتدة بين عامي 1920 و1930، وتحت تأثير المدّ الكبير لنظرية برونيسلو مالينوفسكي Bronislaw Malinowski, في التحويل الثقافي اهتمت كوكبة من الأنتربولوجيين بزعامة رايموند فيرث Raymond Firth وأودري ريتشارد Audrey Richards بمسألة التحويل الثقافي التي تشكل المسألة الأساسية في نظرية مالينوفسكي(Goodman 2001). وفي مرحلة لاحقة برز اهتمام ماركس كلوكمان Max Gluckman -أستاذ علم الاجتماع والأنتروبولوجيا الاجتماعية في جامعة مانشستر – بالقضايا التربوية من وجهة نظر أنتروبولوجية وعزز هذا التوجه في قسمه العلمي. ومن ثم أحدث اهتمامه هذا تأثيرا كبيرا حيث أجريت أبحاث هامة أشرف عليها كل من هارغريف D.H. Hargreaves ولاسي Colin Lacey حول أوضاع المدارس في بريطانيا(Atkinson & Hammersley 1988, Goodman 2001). ومع ذلك يمكن القول بأن الأنتربولوجيا البريطانيا تمحورت حول المؤسسات الاجتماعية بدرجة أكبر من المؤسسات الثقافية ولم تشجع بصورة عامة على دراسة عملية التحويل الثقافي المتطورة في الولايات المتحدة الأمريكية وهناك عدد قليل من الباحثين الذين أولوا هذه المسألة اهتمامهم.
وفي هذا السياق فإن الإثنوغرافيا Ethnographie البريطانية قد تطورت على أيدي علماء الاجتماع بدون أي تأثير من قبل الأنتروبولوجيا. وتشهد الساحة الفكرية بوجود عدد من علماء الاجتماع التربويين الذين لم يستخدموا كلمة ثقافة ولم يعرّفوا أبحاثهم التي اعتمدت منهج دراسة الحالة على أنها دراسات أثنوغرافية. وإذا كانت الإثنوغرافيا تشكل علما اجتماعيا يتقصى وجهات نظر الأفراد المبحوثين، ويبحث في الكيفيات التي يعطي فيها الأفراد معنى لحياتهم اليومية، فإن علم الاجتماع التربوي في بريطانيا يجري دراسات تقع تحت مظلة الإثنوغرافيا. وفي كل الأحوال فإن عددا من الدراسات الجارية البريطانية التي كان لها أثر كبير في الباحثين الأمريكيين مثل كيدي Keddie (1971) وويلس Willis (1977)، ركزت على دراسة البناء المعنى الذي يضفيه المعلمون والتلاميذ على حياتهم في سياق حياتهم التربوية اليومية. وقد أنشأ البريطانيون مجلة دولية جديدة عونانها الإثنوغرافيا والتربية Ethnography and Education التي هدفت إلى فهم ثقافات الجماعات المدروسة (Ethnography and Education 2004).
ويمكن القول في هذا السياق إنه لطالما تمّ تمييز الإثنوغرافيا التربوية البريطانية عن الأنتروبولوجية التربوية الأمريكية، وأن هذا التمييز قد تناقصت أهميته في الوقت الحالي. فالبريطانيون ما زالوا يأخذون بهذه الفروق بين الفرعين في الوقت الذي يعطيه الأمريكيون أهمية أقل بكثير. فعلى سبيل المثال: ينظر الباحثون البريطانيون إلى المعلم بوصفه أحد العمال في المؤسسة المدرسية بينما ينظر إليه الباحثون الأمريكيون بوصفه خصما للطلاب والتلامذة في المدرسة (Atkinson& Delamont & Hammersley 1988).
-
Dr.miraProfesseur d'université