روحانية الرموز وأبعادها المتعددة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

روحانية الرموز وأبعادها المتعددة

  نشر في 04 نونبر 2016 .

مرة أخرى فيما يتعلق بالرموز..

وفي محاولة لتقريب المسألة الى أدنى حد ممكن من الفهم العام، يمكن أن أطرح تساؤلات من هذا النوع: ما الذي يدركه الانسان العادي من وجود الهلال والنجمة في أعالي المآذن والقباب؟ ما هو مغزى أن تكون النجمة السداسية والشمعدان رمزان يهوديان؟ والى أي مدى يمكن أن يكون الصليب رمزاً اختزالياً للعقيدة المسيحية من مختلف أبعادها الثيولوجية والفلسفية؟- الأمر نفسه الذي ينطبق على الرموز والعلامات التجارية ورموز وشعارات الدول والأحزاب والحكومات.. فلا شيء له فعالية من حولنا اليوم إلا وله رمز يدل عليه دائماً..

الرموز المتعالية صوب الماوراء:

إن الانسان بطبيعته منزوع الى البحث والتأمل فيما وراء الأشياء، ولعل الرموز بحد ذاتها تمثل ذلك الوسيط الفعال الذي يسمح له بالنفاذ ذهنياً عبر ذلك الحجاب الفاصل بين العالمين. وبحسب "يونغ" فإن الرمز يكثّف إنتاجات الإنسان الدينيّة والأخلاقيّة والخلاّقة والجماليّة، ويلوّن كافّة أنشطته الفكريّة والمُخَيِّلَة والعاطفيّة، ويُحافظ في حالة يقظة دائمة على توتّر الأضداد الذي هو أساس حياتنا النفسيّة. فعلى طول التاريخ أعطى الانسان لكل شيء تقريباً قيمة رمزية، سواء تلك الأشياء الطبيعية من الكائنات الحية والجمادات التي تحفل بها البيئة المحيطة، أو من خلال التجريد الذي مارسه من خلال رسم الأشكال الهندسية والأرقام والإيقاعات والتعبيرات المجازية.. الخ.

ومن ثم فإن الرمز لا يتضمّن شيئًا ولا يفسّر إنّما يحيل على ما يتخطّاه باتّجاه معنى مازال في الماوراء، وهو ذلك المعنًى الذي يتعذّر إدراكه ويصعب استشعاره إلى درجة أنّه لا يمكن لأيّ كلمة أن تُعبّر عنه بشكل ضاف ودقيق. فالصليب يعتبر تجسيدًا لحدث كان ومازال مجهولاً وغير قابل للفهم، وروحانيّ أو متعالٍ، ومن ثمَّ هو حدث نفسي في المقام الأوّل حتّى إنّه يستحيل تمثّله بمنتهى الدقّة إلاّ بالصليب.

لذا يمكن القول بأن الرمز لا يلغي الواقع ولا يستبعد العلامة المدركة، بل يضيف إليهما بُعدًا وبروزًا وعموديّةً. ويُقِيمُ انطلاقًا منها فعلاً وموضوعًا وعلامةً وعلاقات ما فوق عقليّة ومخيَّلَة بين مستويات الوجود وبين عوالم الكون الإنسانيّة والإلهيّة. تماماً كما قال "هيغوُ فون هُوفمنسْتال" (Hugo Von Hofmannstal): "أن الرمز يُبْعِدُ القريبَ ويقرِّب البعيد بطريقة تجعل الإحساس يدرك هذا وذاك". ومن ثم فإن الرمز بصفته مقولة متعالية للعلوّ ولما فوق الأرضيّ وللامتناهي يتبدّى بكليّته للإنسان ولعقله كما لرُوحه.

ومثلما أن الرمز مقولة للعلوّ فهو أيضًا إحدى مقولات اللامرئيّ. ويقودنا حلّ الرموز إلى أعماق الروح الجوهريّة التي يتعذّر سبر أغوارها، لأنّ الرمز يضيف إلى الصورة المرئيّة نصيب اللامرئيّ الذي يعسر إدراكه"- على حدّ تعبير ما قاله "كلي" (Klee). 

وهذا يقودنا الى استنتاج أن فهم الرموز لا يتعلّق بالعلوم العقليّة بقدر تعلّقه بضرب من الإدراك الحسّيّ المباشر عن طريق الوعي. ولهذا نقول بأن الرموز تجربة الإنسان الشاملة الدينيّة والكونيّة والاجتماعيّة والنفسيّة في المستويات الثلاثة (اللاوعي والوعي وما فوق الوعي). وتحقّق أيضًا خلاصة للعالم بإبراز الوحدة الأساسيّة لمستوياته الثلاثة (السفليّ والأرضيّ والسماويّ) ولمركز اتّجاهات الفضاء الستّة، وذلك بإبراز محاور التجميع الكبرى (قمر، ماء، نار، وحش ذو أجنحة...)..!!

وفي هذا السياق، أكدت العديد من البحوث التاريخيّة والمقارنات بين الثقافات ودراسة تأويلاتها المتأتّية من التقاليد الشفويّة والمكتوبة وكذلك من ضوابط التحليل النفسيّ، أن الرموز تعمل بمعيار واحد وأن تعددت أشكالها وأنماط قراءاتها، وأن غاية الرموز تظل كامنة في وعي الانسان في مختلف أبعاد الزمان والمكان وفي كل انعكاسها الماورائية، على نحو يمكن من إدراك كيف أنها ثرية بشكل ساحر ومدهش.

الكأس المقلوبة والقبة السماوية:

يمكننا استمثال ثراء الرمز وقدرته الايحائية على تلك العلاقة بين الرامز والمرموز إليه، بالقول بأن الكأس المقلوبة التي ترمز إلى السماء لا تعبّر على نحو من التماثل عن السماء نفسها، بل تشير الى كلّ ما توحي به السماء للاوعي، من حيث أن يستمد منها غالباً الأمان والحماية، ومن حيث أن السماء منزل للكائنات العُلويّة، التي تجسد لاشعورياً كونها مصدر الحكمة والمعرفة الأصيلة. وفي كل الأحوال فإن الرمز هنا قد يكون (قبة) في جامع أو كنيسة أو في خيمة من خيام البدو الرُحّل، أو أياً ما كان، فإنّ العلاقة الرمزيّة تبقى مستقرّة بين الطرفين، القُبَّة والسماء، مهما كانت درجة الإدراك والمنافع المباشرة المستفادة منها، فضلاً عن تعدد التأويلات التي يمكن أن يكون مفتوحاً الى ما لانهاية، وفي أبعاد متعددة.

غالباً ما تنفتح الرموز على أبعاد متعددة، لتعبّر عن علاقات من قبيل (أرض-سماء)، (فضاء-زمان)، .. الخ، مثل الكأس الموجّهة نحو السماء أو الأرض، بحيث تجسد في بعدها الأول نموذجاً لثنائيّة قُطبيّة. كما يمكن للرموز في هذا البعد أن تقوم بالتأليف بين الأضداد، خاصة وأن العديد من الثنائيات المتضادة تحمل أوجه تشابه فيما بينها، دائماً ما تعبّر عن نفسها بالرموز. وقد تكون من البعد الثاني على نحو المشكاة أو القبّة المرتكزة على قاعدتها قياسًا إلى الكأس منفردة، في الوقت الذي تنأى فيه تماماً عن الاتجاه بهذا التأليف نحو التوسط أو إيجاد منطقة وسط بين المتضادين.

بيد أن هذا لا يعني أن الرموز قد تنحو في سلوكها هذا السلوك المنطقي الذي يجسده مبدأ الثالث المرفوع، بل يعني أنها تفترض وجود تكامل ممكن بين الكائنات وتضامن كونيّ يُدْرَكان في الواقع المحسوس للعلاقة بين كائنيْن أو مجموعتيْن من الكائنات أو أكثر. ويُفترض في الرمز المتعدّد الأبعاد قابليّته لعدد لا ينتهي منها.

اللغة الكونية للرموز:

الرموز تضعنا في قلب عالم روحاني متطلع بشغف الى الماوراء، بحيث يمكن التعبير عن تلك الصور الرمزية بأيقونات وتعابير تسبيحية تحمل معها نشيجاً وجوقة من التوق العارم الى عبور الحاجز الفاصل بين الوجود وما وراء الوجود. وفي الأخير فإن الرموز تصل الإنسان بالعالم، وتشربه احساسه بالاندماج الكلي والتكامل الذاتي الذي تزول معه كل عزلة وكل غموض، فالرموز تضعه في قلب وبؤرة شبكة شاسعة من العلاقات، على نحو يصعب تمثيله إلا بالرمز نفسه، ولهذا يقال أن الرموز متعالية مهما بالغت في شفافيتها.

ومن أجل ذلك يقال أيضاً أنّ عصرًا بلا رموز هو عصر ميْتٌ، ومجتمعًا بلا رموز هو مجتمع مَيْتٌ. وإنّ أي حضارة لم يعد لها رموز هي حضارة آيلة إلى الزوال، وقريباً ستصبح من الماضي.

وهكذا، فإن الرموز تظل بحق تلك اللغة الكونية التي يتقاسمها الجميع، من خلال اللاوعي الجمعي المشترك على المستوى الشمولي للبشر أجمعين، وهي اللغة التي ساهمت في اثراءها وعمقها وتعددها وتنوعها كلّ الإسهامات العرقيّة والشخصيّة والدينية والحضارية لكل البشر. وهذا ما يجعل من الرموز وسيلة بالغة النجاعة في التواصل والتناغم بين الثقافات والأعراق والحضارات والأجناس والأديان، إذ أنها تقود الجميع إلى أعلى درجات قوّتها وإلى أعمق أبعادها. فمن ينفذ إلى معنى رموز متعلّقة بشخص أو بشعب يستطيع أن يسبر أغوار هذا الشخص وهذا الشعب بكل جدارة واقتدار.


  • 2

   نشر في 04 نونبر 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا