قبل 300,000 سنة وجد الإنسان نفسه في الطبيعة مع الوحوش و الحيوان ، و داخل قطعان اصطاد الإنسان كما يصطاد الذئب ، و افترس كما يفترس الأسد ، كما ثم افتراسه هو نفسه أيضا كما يتم افتراس النعاج و الغزلان و الجردان ، أي أن الإنسان في بداياته كان كباقي الحيوانات مجرد حلقة في سلسلة الكائنات الحية التي تحفظ التوازن الطبيعي . و مع مرور الزمن اكتشف الإنسان أحد أهم ما سيُؤَسِّس حياته العشائرية بعد ذلك ، و هو "الخيال" الذي سيوظفه لإختراع "الأسطورة" ، التي تضمنت ابتكار الديانات الأولى -كالطوطمية- و الآلهة الأولى(1) ، حيث ستُصبح هذه الآلهة و هذه الديانات الصمغ الذي يُلَحِّم أفراد العشيرة و يَجمعهم في ذات عشائرية واحدة ، كما يَجمع خيط السوار حلقات العقيق ، بمعنى آخر حاجة الإستمرار في الحياة اقتضت إبداع معنى للحياة و هو الذي اختلقته الأسطورة من جانب ، و ضرورة العيش بشكل مشترك في إطار جماعات من جهة أخرى ، حيث يستوثق الأمن داخليا و يحرض الأفراد لرد الإعتداء الخارجي ، هكذا سيؤسس الإنسان عشائره فيما بعد على أساس الأسطورة بما أنها تقدم هذه الضرورات .
إذ إن الأسطورة تتضمن "نظام تصنيف Système de classification" ، يفرق بين ما هو مقدس و ما هو مدنس كما لاحظ ذلك "إميل دوركايم" و تلميذه "مارسيل موس" ، فإنها حددت قانون العشيرة ، هكذا وجدت الحياة المادية نظاما قارا ، و في نفس الوقت أوجد الإنسان للحياة الرمزية بواسطة الأسطورة معنى و أبدع لها قيمة ، و ابتكر أجوبة عن أهم أسئلته الوجودية ، من قبيل من خلق الكون و من خلق الكائنات التي تعيش فيه و منها الإنسان ؟ من يحرك ظواهر الكون كالليل و النهار و البرق ؟ من يسقط المطر ، و من يجعل البحر يرتد لحدود مده لا يفوتها ؟ ثم ما هي وظيفة الإنسان و ما موقعه في الوجود ؟ و إلى أين مآله بعد الموت ؟
و من ذلك اخترع اليونان "أسطورة زيوس" و آلهة الألمب ، كما اخترع السومريون أسطورة عشتار و "أسطورة الخلق" التي مازلت تعيش إلى اليوم في الكثير من إيمانيات البشر ، ثم اخترع البابليين ملحمة "الأنوما إيليش" التي تعتبر بحق أول سفر تكوين دونه الإنسان ، إذ يعني اسم الملحمة "في الأعالي" حيث لم يكن لا أرض و لا سماء ، بل كان هناك فقط ثلاثة آلهة ، "إبسو" و هو الماء الحلو ، و زوجته "تعامة" و هي ماء مالح ، ثم و "ممو" و هو أمواج نشأت عن إبسو ، هكذا بدأت هذه الآلهة الثلاث تتناسل فولدت "لخمو" و "لاخو" و غيرهم ، فاعتلى كل إله ظاهرة طبيعية ، أحدهم أصبح إله للسماء و آخر للشمس و آخر للمطر و غيره للعواصف ، هكذا خلق الكون حسب ملحمة "الأنوما إيليش" الذي سيتسنم الإله "مردوخ" بعد ذلك درجة إله الآلهة فيأمر باتخاذ بابل مدينة للآلهة و بناء فيها معبد تنطح ذروته السماء (2).
و بذلك مثلت الأسطورة المحاولة الأولى للإنسان من أجل الفهم و الوصول للحقائق التي تؤطر الوجود ، فهي أداة الإنسان القديم في التفسير و التحليل ، هي حكاية مقدسة يلعب أدوارها الآلهة وأنصاف الآلهة ، أحداثها ليست مصنوعة أو متخيلة ، إنها سجل أفعال الآلهة ، تلك الأفعال التي أخرجت الكون من لجة العماء ، و وطدت نظام كل شيء قائم ، و وضعت صيغة أولى لكل الأمور الجارية في عالم البشر ، فهي معتقد راسخ ، إلى درجة كون الكفر به يفقد الفرد لكل القيم التي تشده إلى جماعته وثقافته ، كما يفقد المعنى الحياة . غير أن من منطلق الكفر بالأسطورة كنظرية معرفة تقدم الحقيقة ، ستنبثق محاولة جديدة و مغامرة فكرية ماتعة و هي "الفلسفة" لمحاولة ابتكار معنى جديد غير ما أقرت به الأساطير ، حيث ستنطلق في بلاد الإغريق في حدود القرن السابع قبل الميلاد ، مع مجموعة من الحكماء و المتأملين ، من آثروا الفكر و المعرفة العقلانية عن الحياة البهيمية .
من ذلك فهم اليونان أن الفلسفة هي "العلم بالوجود كما هو موجود" ، هي ذلك التفكير الذي يسائل كل شيء دون إدعاء صحة أي شيء ، هي وضع معارف العامة على مشرحة الشك و التفكيك و النقد ، الفلسفة هي تلك الممارسة التي تزعزع اليقينيات و تهدم الأفكار الديماغوجية المسبقة السائدة ، الفيلسوف ليس هو من يجيب ، بل هو من من يطرح السؤال فاتحا بذلك الأفق بحثا عن الجواب ، و حتى إذا ما تم التوصل إلى الجواب ، يشكك في صتحه ، فالفيلسوف هو من يَبيت على رأي و يصبح على الشك فيه ، فيمسي باحثا على جواب جديد .
هكذا فإذا كانت الأسطورة نتيجة لإكتشاف الخيال ، فإن الفلسفة نتيجة لاكتشاف العقل ، و إيمان بقدرته على هندسة التأويل و إبداع المعنى و صوغ التفسير ، من ذلك لم تبلغ اليونان قرن ميلاد المسيح حتى راكمت تراثا فلسفيا عظيما لا يقايض و لو بجبال من ذهب ، و هو ما خطى بالفكر البشري خطوة كبيرة قفزت على الأسطورة و تجاوزتها ، و هو ما استفاذ منه المنطق العلمي كذلك ، و امتدت هذه الإستفادة حتى أيامنا هذه ، و لعرض حيتياث هذه الإستفادة سنختار ثلاثة فلاسفة من كل مرحلة تاريخية أو أكثر ، و نعرض لآرائهم و وجوه استفادة العلم من ذلك في تقدمه و ارتقائه .
مرحلة ما قبل الميلاد:
استهلت رحلة الفلسفة من "طاليس" و هو أحد الحكماء السبعة في بلاد اليونان ، و أول من حاول الإبتعاد عن الأسطورة لتفسير الوجود ، حيث قال بالماء كأصل للعالم ، و أن كل مكونات الكون تعود و يَنمِيها الماء كأصل ، و في ذلك تعبير عن مبدأ تميز به فلاسفة مالطا و هو المبدأ الذي يقول بأن "الكل هو الواحد" و أن الوجود غير مفارق و لا بحادث ، أي أن الكون لم تخلقه الآلهة و إنما أزلي ، بل الآلهة لو وجدت فلن تكون سوى الطبيعة نفسها ، ثم عرض فلسفته ليس على أنها موروث عن الأجداد و إنما كونها استنتاجات عقلية استنتجها بنفسه ، و حسب "فريديريك نيتشه" بما أن فلسفة طاليس تناولت أصل العالم أولا ، و بمعزل عن الأسطورة و عن مقولات الأجداد ثانيا ، ثم قالت بمبدأ "الكل واحد" ، يكون طاليس حسب الإعتبار الأول و بالثاني مفكرا طبيعيا ، و بالثالث فيلسوف يونانيا . فيلسوفا بما يقتضي ذلك تطليق الأسطورة و صياغة فهم عقلاني (3).
و بذلك يكون طاليس علامة فارقة في تاريخ الفكر البشري ، و مُدشن ما يسميه مؤرخي الفلسفة بـ"المعجزة اليونانية"(4) ، حيت قطع مع التفكير الأسطوري و أسس للتفكير العقلاني و التفسير المنطقي للوجود ، و بذلك يكون طاليس ضمنيا قد وضع أول لبنة في صرح المعرفة العلمية .
ثم من النافل القول أن تفكير الإنسان كان غير خاضع لأساس رياضي ، و هنا كان "فيتاغورس" في الموعد ، حيث سيؤسس لمدرسة فلسفية تعتبر "الأشياء أعداد" و تنحوا إلى تفسير العالم بمنطق رياضي (5)، و من ذلك تصور الفيتاغوريين أن الكون هو حصيلة تفاعل عشرة أزواج من الأضداد ، كالليل و النار ، بارد ساخن ... إذ قالوا بأن العالم مبني على الأعداد ، ثم درسوا الوجود في صورة أشكال هندسية و نسب رياضية ، بما فيها ظواهر الطبيعة و فضائل النفوس و أحوال المجتمع ، حيث اعتبروا أن التراب مكعب و النار مثلثة ، كما فهموا أن العدد 4 يدل على العدل بما أنه يساوي جمع عددين متساويين . ناهيك عن عمل فيتاغورس على صياغة مبرهنات هندسية لازات تدرس في المؤسسات التعليمية حتى الآن ، كالمبرهنة التي تفيد بأن مجموع زوايا المثلث تساوي مجموع زاويتين قائمتين ، و أن المربع المنشأ على وتر المثلث القائم الزاوية مساوٍ لمجموع المربعين على ضلعي ذلك المثلث ، كما يعتبر فيتاغورس هو أول من صاغ الجداول الرياضية للعمليات الحسابية الأربع (6) .
و كما هو معروف فإن العلوم الحديثة تتأسس بشكل كبير جدا على الأرقام و الإحصاءات و النسب ، فلا يُعترف بأي نظرية على أنها علمية إلا بعد أن تبرهن على تفسيراتها بمعادلات أو إحصاءات و نسب ، هكذا تدين العلوم المرتبطة ارتباطا عضويا بالأعداد ، سواء العلوم الطبيعية أو الإنسانية ، إلى فيتاغورس مؤسس نهج الدراسة الرياضياتي .
بوصول الفلسفة اليونانية إلى النضج ، ستشرع في تأسيس نماذج أولية للعلوم الإنسانية ، و ذلك حصل عندما أنزل "سقراط" الفلسفة من السماء إلى الأرض ، حيث انفتح للفلسفة أفق جديد للإشتغال و هو المجتمع و أحوال الإنسان و السياسة و الأخلاق ، و طرح سقراط سؤالا لازالت إلى اليوم تتراكم حوله الأجوبة ، هذا السؤال هو "ما الإنسان؟" ، بعد أن كان السؤال عند الفلاسفة السابقين عليه هو "ما الطبيعة؟ - و ما الوجود؟" (7) ، و للإجابة عن هذا السؤال انقطع سقراط إلى نقاش أي شخص يصادفه ، مستعملا في ذلك "التهكم و توليد الأفكار" ، حيث كان يعرض على المحاور سلسلة من الأسئلة يفحص بها مدى قيمة معارفه ، فينتهي إلى تبيان أن المحاور جاهل و لا يفكر بشكل متسق ، فقد كان يستعمل الإستقراء فيتدرج من الجزئيات إلى الماهية المشتركة ، و يحاول حَدَّ هذه الماهية ، فكان بذلك أول من طلب الحد الكلي حدا مطردا ، متوسلا لذلك بالإستقراء ، و منه يعتبر سقراط حسب -أرسطو- أول واضع لمنهج العلم في توليد المعرفة الموضوعية (8).
و كان لتلميذه أفلاطون قسب السبق في الإنتقال من توليد الأفكار إلى بناء نظريات ، ينصلح بها الواقع سياسيا و اجتماعيا ، و من ذلك تعتبر أطروحته "الجمهورية" أحد أقدم النظريات السياسية و السوسيولوجية ، التي جسدت التفكير الفلسفي في الإنسان بشكل متوسع (9) ، و بذلك يكون الفيلسوفين أول من وضعا الخيط الأول في نسيج العلوم الإنسانية .
غير أن "أرسطو" أحد أعظم الفلاسفة في تاريخ البشرية ، و أكثرهم تأثيرا في العلم و منطق تفكيره و مناهج اشتغاله ، فهو أول من رتب مباحث الفلسفة و العلوم في زمانه من الفيزيقا إلى الميتافيزيقا ، كما يرجع له الفضل في إبداع أساس التفكير العلمي و هو "المنطق" الذي اعتبره أرسطو أداة العلم ، حيث صاغ مبادئه و قواعده و مناهجه ، و اشتغل على تطبيقاته في مختلف العلوم ، كما يعتبر أريسطو من أوائل من قاموا بدراسات تشتغل وفق أدوات البحث العلمي كـ"الملاحظة" ، حيث أمر له تلميذه "الإسكندر الإكبر" بأن يأتى له بمختلف أنواع و فصائل الحيونات بما فيها الفيلة و السباع ، و الديدان و مختلف فصائل النباتات ، حيث أسس بذلك أول حديقة حيوان في التاريخ من جانب، و أول مدون و مصنف لأنواع الحيوانات و فصائل النباتات ، فضلا عن أنه أول مشرح و أول من قام بتجارب على الحيوانات من جانب آخر (10) .
و بذلك يعتبر بحق أرسطو أحد أعجب العقول البشرية ، حيث أسس لعلوم الأرض و السماء و له في كليهما نظريات و تفسيرات عبقرية ، فضلا عن أنه مؤسس علم المنطق و أول من وضع منهج البحث العلمي المشتغل بأدوات كالملاحظة و التصنيف و القياس و التجربة ، و هو ما جعل العلوم في زمانه و في ما بعد زمانه تتقدم بشكل كبير جدا .
ستعرف الفلسفة بعد موت أرسطو و ميلاد المسيح كسادا عظيما ، حيث ستغلق الإمبراطورية الرومانية مراكز و مدارس الفلسفة في اليونان وخصوصا ما كان منها في أثينا ، كما ستحاصر مدينة الإسكندرية التي كانت بعد أثينا أعظم مركز علمي فوق كوكب الأرض ، غير أنها هي الأخرى ستحرق مكتبتها العظيمة بأمر من الإمبراطور المسيحي "تيودوسيوس" سنة 391م (11) ، و بعدها سيقضي المسلمين على ما تبقى منها عند غزوهم بلاد مصر ، عبر أمر "عمر ابن الخطاب" بإتلاف ما تبقى من محتويات المكتبة (12) ، هكذا جف عود الفلسفة الرطيب بعد تدخل كل من السياسة و الدين في شؤون الفكر و البحث الفلسفي ، لذلك وجب الإشارة هنا إلى أن الدين كان في طليعة الأسباب التي تخلفت الفلسفة بسببها ، إذ شكل منع و تكفير الدين أهم العوامل المثبطة لحرية الفكر و بالتالي لتخلف التفلسف و البحث المنطقي و العلمي.
بعد ذلك ستهرب الفلسفة من أثينا إلى بغداد ، حيث كان قد توفرت لها كل شروط الإزدهار ، و ذلك عبر انفتاح المسلمين على ثقافات الشعوب الأخرى ، حيث اشتروا منهم كل ما له علاقة بكتب اليونان و الفارسيين و المصريين الذين كانوا شعوب معروفة بحضارات فكرية و بتراث علمي و فلسفي رفيع ، فما كان من العرب مسلمين و مسيحيين ، إلا أن ترجموا هذا التراث في أحد أهم مراكز الترجمة التي عرفتها القرون الوسطى وهي "دار الحكمة" التي أسسها "عبد الله المؤمون" (13) ، فعرفت الضفة الجنوبية للمتوسط حركة فلسفية و علمية لم يخف أوارها إلا بعد متم القرن 14م ، حيث ظهر في كنفها الكندي و الفرابي و ابن مسكويه و جابر ابن حيان و جعفر الصادق و ابن سينا و ابن باجة و ابن رشد و ابن طفيل و غيرهم من الشموس التي كانت تضيء قتامة القرون الوسطى ، إلا أن الفلسفة ستعود إلى الضفة الشمالية عبر الأندلس ، بعد أن شعرت بأن الظروف بدأت تضيق في بلاد المسلمين حيث بدأ الإنحطاط و التخلف يتطرق إلى بقاعهم .
إذ إن ينبوع الفلسفة لا يتفجر إلا حيث تتفجر الحضارة ، و ينتشر العمران و يسود حب المعرفة و الثقافة ، و ينوري عن الأنظار التعصب و التكفير و مقت النبوغ .
مرحلة القرون الوسطـى :
لم تعرف بدايات مرحلة القرون الوسطى فلسفات جديدة صلبة ، إلا بعض المذاهب التي تدور حول فلسفات أحد من حكماء اليونان الكبار ، كالأفلاطونية المحدثة و الرواقية و الإسمية . لكن بترجمة تراث اليونان من طرف العرب ، ستعرف الفلسفة طفرة عظيمة ، حيث سيظهر في القرن 9 الميلادي "الكندي فيلسوف العرب" ، الذي دفع بحركة الفكر المنطقي في الشرق دفعة كبيرة ، و منها وضعه قضية المعرفة في مجال أوسع مما كان من قبل ، وفتح أمام الفكر العربي أفاق المعرفة الفلسفية بمعناها الأشمل ، وآفاق المعرفة العلمية الطبيعية النظرية والتجريبية ، دون ربطها مع النص الديني ، وأبرز ما يظهر في هذا المنهج تحديده للفلسفة بإنها: "علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الانسان" ، هكذا خرخت الفلسفة من وصاية النص الديني إلى البحث في حقائق الأشياء التي هي حقائق قابلة لأن تُعرف من طرف الإنسان الباحث (14) ، غير أن ما طبيعة و ما أقسام المعرفة المؤدية للعلم بحقائق الأشياء؟
قسم فيلسوفنا المعرفة إلى: "المعرفة الحسية" موضوعها "العالم المحسوس المادي" وبما أن مدركات الحس غيرقابلة لإدراك حقائق الأشياء، يضيف الكندي "المعرفة العقلية" ومجالها الأمور التي لاتدرك بالحس ، ولا يمكن الوصول إليها إلا بالطرق الإستدلالية العقلية مثل موضوعات علم الرياضيات و الفلك ، وهي الأخرى تبقى منقوصة إلى أن تستكمل بـ"المعرفة الإلهية" وموضوعها الله و أوصافه و شرائعه ، و يسميها الكندي "علم الربوبية" ، هكذا يستطيع الفيلسوف الإجابة عن ماهية الوجود ، و ذلك بتعقل الحواس و تنظيم مدركاتها بالعقل ، ثم الإرتقاء بها إلى معرفة من سماه أرسطو بـ"السبب الأول" و سماه الكندي "بالحق الأول" (15) .
و ممن تقدموا بهذا المنهج المعلم الثاني "أبي نصر الفرابي" خصوصا في علوم الإنسان ، إذ تعد أطروحته "المدينة الفاضلة" جوابا فلسفيا عن ما هي طريقة الحياة الإجتماعية الفُضلى ؟ إذ شبه الفرابي المجتمع كعضو حي (قبل المدرسة العضوية في أوربا قرن19م) لابد لكل أعضائه من أن تتعاون كي يتطور و يستمر المجتمع (16) ، ثم اعتبر العقل المتوسل بعلم المنطق أحد أهم أدوات دراسة مظاهر الطبيعة و أصناف الإجتماع و طبائع النفوس ، فـكعب الفرابي في المنطق عالي إذ يحث على"نسبة علم المنطق للمعقولات ، كنسبة العروض إلى أوزان الشعر ، فكل ما تمنحنا إياه العروض في قوانين الشعر ، يمنحنا مثله المنطق في المعقولات" (17) ، و من ذلك قسم الفرابي إلى قسمين: "التصور" و "التصديق" ، يتعلق الأول بطائفة الأفكار و التعريفات ، و الثاني يُحمل على الإستدلال و الرأي ، إذ أن الأفكار المنطقية تنتج عن تأكيد التصور بالإستدلال ، و تقرير التعريف بالرأي (18) ، هكذا سيضيف الفرابي تفاصيل جديدة لمبادئ أرسطو في المنطق ، و في ذلك نفع عظيم للعلم و تطوير متقدم لمنهج بحثه .
ستتمظهر عبقرية العرب أكثر في ثلاثة فلاسفة عظام ، أولهم "ابن سينا" الذي أخذ شرح "ما بعد الطبيعة" لأريسطو عن الفرابي ، كما أنه شد على يد أستاذه في مركزية علم المنطق في النظر العقلي إلى المجودات ، ثم أضاف تفصيلات و تعميقات لمبادئ المنطق الأرسطية و الفرابية (19) ، لكن تبقى بصمته خالدة في اشتغاله خصوصا بالمنهج التجريبي في علم الطب ، سواء كان علاجيا أو وقائيا أو صيدلة، أو نفسيا ، و كتابه "القانون في الطب" الذي ظل المرجع الأساسي للطب في معظم جامعات أوربا حتى أوائل القرن السابع عشر يتمثل تطبيق منهج التجريبي خير تمثيل ، إذ اهتم بكل فروع الطب تقريبا بدءًا من الطب الوقائي ، انتهاءا بالصيدلة وتركيب الأدوية والعقاقير (الفارماكولوجي) .
وقد سار ابن سينا في تشخيص المرض ومعالجته على الطريقة المتبعة الآن وهي الاستدلال بالبول والبراز والنبض (التحاليل) ، فأمكنه التوصل بذلك إلى وصفِ وتشخيصِ كثير من الأمراض ، فكان أولَ من وصف الإلتهاب السحائي ، وأول من فرق بين الشلل الناتج عن سبب داخلي في الدماغ والناتج عن سبب خارجي ، ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم (الجلطة) ، كما أولى ابن سينا اهتماما بالغًا لمعرفة تنقّل المرض من واحد إلى آخر أو ما نسميه الآن بالعدوى ، كما يقول "وليم أوسلر" في كتابه "تاريخ الطب". فضلا عن معرفته لكثير من الأمراض التي كانت منتشرة في زمنه مثل شلل الوجه ، ومرض السل ، وكثير من الأمراض الجلدية والتناسلية التي لم يعرفها القدماء بدقة بالغة إلا بعد تشخّيصها من طرف ابن سينا (20). كما برع حكيمنا في علم التشريح ، فقد تعرف على الأعضاء الفيزيولوجية للإنسان عن طريق التشريح ، و رسم خريطة لذلك تحدد موضع الأعضاء في جسم الإنسان كي يستفيذ منها الأطباء ، هكذا كان يشتغل ابن سينا بإقامة تجارب من أجل التحقق أو من أجل بناء معرفة موضوعية خالية من أي فكرة مسبقة ، و بذلك تقدمت بشكل كبير جدا من بعده علوم الطب بكل أنواعها و الصيدلة و التشريح و علم النفس ، فضلا عن المنطق و الفلك و ماوراء الطبيعة.
في اتجاه العلوم العقلية سيبرز "أبو حامد الغزالي" الذي جمع كل معارف عصره و درسها و تعرف إليها و قبل بعضها و رد بعضها ، استنقص في مباحث و استزاد في أخرى و أضاف ، إذ أن "منهج الشك" الذي طوره أبرز ما استفاد منه العلم بعده ، إذ يفيد هذا المنهج "افتراض الشك للوصول إلى اليقين" (21)، و سينعنع ريحان هذا المنهج مع أب الفلسفة الحديثة "ديكارت" كما سيأتي لاحقا. إذ إن هذا المنهج جزء لا يتجزأ من مبادئ الفلسفة الحديث لإستعمال العقل بشكل قويم ، كما سيضحه ديكارت و سبينوزا لاحقا .
و يبقى "ابن رشد" أهم من راكم نبوغ من سبقوه و جمع كل خيوط المعرفة إلى عصره فخاط بها ثوبا جديدا للعلم ، فتقدم بمنهج الشك و طور المنطق و قعد للتجريب ، فقد قسم المعرفة إلى برهانية و وحيانية ، فقدم الأولى على الثانية معتبرا المعرفة الفلسفية المؤكدة بالبرهان أعلى مراتب المعرفة و أشرفها ، و ذلك مايحزف البَحَثَة إلى التنافس أكثر في علوم البرهان لأنها هي من تفيد الواقع ، دون التدخل في علوم الوحي أي دون النية في التصادم معها ، بل يجب الترفع عن عقول العامة ممن تسيح في علوم الدين أو الخرافة ، و خلق مجال للخاصة من علماء البرهان ، يقيهم من طعن الدهماء و تهديد المتعصبين (22)، غير أن ذلك لم يتحقق له هو نفسه إذ ثم التنكيل به و حرق كتبه ، و بالمقابل استفادت أوربا من أبحاثه فأسست بها للعصر الحديث فكريا و علميا .
هكذا تَحَصّلَ للعرب في العلم شرف بادخ ، تَعَيَّنَ بإسهام عظيم و تطوير كبير لمختلف المعارف من علوم عقلية و إنسانية إلى علوم الطبيعة و الطب و التشريح ، فضلا عن عشرات الإختراعات التي أبدعها المسلمون في العصور الوسطى و التي كان لها عظيم النفع للبشرية جمعاء ، كالأسطرلاب و القمرة المظلمة التي ستتطور من بعد إلى كامرة ، ثم ميزان الموائع و الساعة الشمعية و غيرها من الإختراعات ذات الإستعمال العلمي أو المعيشي .
العصر الحديث :
أثث الكثير من المفكرين و الفلاسفة حقل الفكر و البحث العقلاني و العلمي في العصر الحديث ، الذي يُعتبر محطة أساسية في تاريخ المعرفة العلمية و الفكر الإنساني بشكل عام ، إذ تبدأ هذه الفترة الجديدة بطريقة جديدة في التفكير و منهج مغاير للنظر ، و قواعد جديدة للبحث العلمي ، حيث يعتبر "فرانسيس بيكون" أول من استهل هذا المشوار ، من خلال إسقاطه للمنطق الأريسطي و السكولاستيكي ، و بناء "أورغانون جديد" ، إذ سيلاحظ بيكون أن منطق أريسطو الذي يقوم على القياس ، لا يجعلنا نكتشف شيءا و بالتالي وجب تغييره بأساس جديد للبحث الإستكشافي الذي يعد أحد أهم مميزات و مرتكزات العلوم الحديثة ، و هنا سيبدع بيكون "المنهج التجريبي" بمعناه الحديث ، الذي يقطع مع التأمل و ينقطع إلى بناء معرفة موضوعية مرتبطة بواقع فيزيقي ، يدرس بواسطة التجربة و الملاحظة ، حيث يجب أن يهتم العلم حسب بيكون بملاحظة الأشياء و تصنيف حركتها و قَدِّهَا ، و تفكيك مكوناتها و تحديد خصوصيتها الفيزيائية (الحركة- الكتلة...) ، ثم الإرتقاء بالملاحظة إلى التعميم و صياغة نماذج تفسيرية (23) ، هكذا سيؤسس بيكون لمنهج تجريبي يقوم على "الإستقراء" ، الذي يبدأ بالتجربة الحسية التي يعمل الباحث على إثرائها بالملاحظات الدقيقة والتجارب العملية، ثم يأتي دور استخراج النتائج منها بحذر و على مهل ولا يكفي عدد قليل من الملاحظات لإصدار الأحكام ، كما يجب عدم الاكتفاء بدراسة الأمثلة المتشابهة بل تجب دراسة الإختلافات و التناقضات في الموجودات ، للوصول إلى قوانين عام موثوق بها .
سيسير في ركاب الأورغانون الجديد كبار علماء العصر الحديث كـ"إسحاق نيوتن" و "غاليليو غاليلي" و سيصوغون نظرياتهم العلمية على أساس الإستقراء البيكوني ، كما سيهتم الفلافسة بهذا المنهج إما تحويرا أو تصحيحا و مراكمة ، كجون ستيوار ميل و "ديكارت" ، هذا الأخير الذي لم يوافق على بعض النقاط التي أتى بها بيكون في ما يخص مصدر المعرفة ، الذي رأى بيكون أنه هو الحواس و التجربة ، و مال في ذلك ديكارت إلى القول بـ"العقل" كمصدر و مُرتب و مُهندس للمعرفة الصحيحة ، و في ذلك نظر للعقل على أنه جوهر الإنسان و كنه معرفته ، يقول ديكارت:"العقل هو القسمة العادلة بين جميع الناس" ، حيث لكل الناس عقل ، غير أن نسبة استعمالهم لهذه الملكة مختلف ، و من أجل استخدام ناجح للعقل ، صاغ ديكارت لذلك قواعد فلسفية لاستعمال محكم من أجل استنتاج أفكار صحيحة و معرفة موضوعية .
قاعدة البداهة/ الشك: لا يجب قبول الأفكار إلا م كان منها بديهيا ، و مميزا في الذهن مثل 1+1=2 ، و أن أشك في كل الأحكام و المعتقدات الغير بديهية .
قاعدة التقسيم/ التحليل: يجب تجزيء المسائل الفكرية إلى أبسط عناصرها و أيسرها ، ثم معالجة كل جزء بحياله .
قاعدة الترتيب/ التنظيم: يجب معالجة عناصر المسائل بشكل تصاعدي من البسيط إلى المعقد ، و بشكل مرتب لحل المعضلات بطريقة سلسة و منظمة ، كي تكون النتائج واضحة لا يتخللها الإبهام.
قاعدة الراجعة/ الإحصاء: و تعني وجوب العمل على مراجعة عملية التفكير في مراحلها السابقة ، كي نتأكد من عدم إغفال أي عنصر ، ثم من أجل التأكد من أن الإستنتاجات خالصة الصحة (24).
هذا المنهج حسب ديكارت هو أقوى وسيلة للعقل من أجل إبداع معرفة حقيقية و موضوعية ، و هو منهج رياضي كما هو واضح ، كون ديكارت كان رياضياتي هو نفسه ، ولعله تأثر بالنتائج الرياضياتية العقلية و التي لا يتطرق إليها الإرتياب ، غير أن الشك في هذا المنهج سيأتي من بلاد الإنجليز ، حيث سيصد عنه كل من جون لوك و ديفيد هيوم و توماس هوبز و جورج باركلي الممثلين البارزين للإتجاه الحسي ، حيث يمكن اختصار موقف هذه المدرسة من طبيعة المعرفة بقول جون لوك: "العقل صفحة بيضاء و التجربة (أو الخبرة) تنقش عليها مختلف المعارف" ، إذ لا يترك رواد أصالة الحس و التجربة أي مجال للعقل كمصدر و مصنع للأفكار ، بل هو نفسه نتيجة لما يقدمه له الحس من مقولات ، هكذا فالعلم بالمحسوسات سابق للعلم بالمعقولات ، و به تعتبر المعرفة تقفز من الحس إلى الوعي (25) ، و هو ما ينفي فطرية المقولات الفكرية التي قال بها صاحب الكوجيتو ، بل يغالي جورج باركلي في اعتبار الموجود هو المدرك بالحس حصرا ، إذ ما إن يغيب الشيء عن الحس حتى يدخل في حيز العدمية ، هكذا فإذا كانت مدرسة ديكارت عقلانية ، فإن المدرسة الحسية هي العقلانية المعكوسة إلى حد التطرف . فهل مصدر المعرفة العقل حصرا أم الحس حصرا ؟
أنعمت الطبيعة على الفكر بأن مهدت سبل مجيء فيلسوف بديع لكي يجيب عن هذا السؤال ، و هو الألماني "إمانويل كانط" صاحب "نقد العقل المحض" و "نقد ملكة الحكم" ، الذي أيقضه هيوم من سباته الدوغماطيقي ، كما أعجبت فاهمته بمنهج ديكارت ، فنقد كلا الإتجاهين ، منتصرا إلى القول بأن "المقولات العقلية بدون معطيات الحس جوفاء، و المعطيات الحسية دون مقولات العقل عمياء" ، هكذا فالمعرفة تبدأ بالحس و التجربة لكن لا تنتهي عندهما ، بل تخضع هذه المعطيات الحسية إلى التنظيم عن طرق مقولات العقل التي أكد كانط بأنها فطرية ، و التي تبقى المعرفة بدونها مشتتة و غير خاضعة لأساس منطقي ، ما يجعل العقل ضرورة و الحس واقع ، و هكذا تعتبر المعرفة بنيان مُشيد بواسطة التفاعل الذي يحصل بين معطيات الحس و مبادئ العقل (26) ، و هذا يتوافق مع أحدث نظريات علم الأعصاب و الفيزيولوجية.
عظمة كانط لا تتعين في الإجابة عن أهم سؤال فلسفي في العصر الحديث ، بل بكونه غَيَّرَ اتجاه بوصلة البحث الفلسفي ، من الإبستيمولوجيا إلى الأنطولوجيا و الميتافيزيقا ، بعد أن ساح و هام الفلاسفة منذ طاليس بادئين الدراسة في مبحث الميتافيزيقا (ماوراء الطبعة) و الأنطولوجيا (مبحث الوجود) نزولا إلى الإبستيمولوجيا (مبحث المعرفة) ، هكذا اهتهم طاليس و أنكسيمونس و أريسطو وغيرهم بأصل العالم ، دون أشكلة وسيلة إجاد الجواب و هي العقل ، ذلك ما جعلهم يحددون أصل العالم و مُحدثه (الإله) ، ثم النزول من ذلك لتحديد طبيعة المعرفة بناءا عن طبيعة الوجود ، غير أن فلاسفة القرن 17م و أبرعهم كانط انطلقوا من الجواب عن "كيف يَعرِف و يَفهَم العقل؟" أولا ، ثم التطرق للجواب عن "ما هو أصل الوجود؟" ، فإذا لم نعرف مدى و أفق ما يعرفه العقل سيكون البحث في الميتافيزيقا و الأنطولوجيا مضيعة للوقت فقط ، فعندما نريد فتح قُفل لا يجب تجريب كل المفاتيح بل يجب البحث عن المفتاح المناسب لِقَدِّ القفل ، هكذا حاولت الفلسفة الأولى فتح قفل الأنطولوجيا بأي مفتاح كان (يتحقق فيه شرط الترفع عن الأسطرة) فلم تنتهي إلى جواب مجمع عليه .
أما المنهج الحديث ، فقد قلب مسار البحث و في ذلك أعظم دفعة للعلوم إلى الأمام ، حيث كَعَّ و نكص الفلاسفة منذ فرانسيس بيكون عن تحديد معنى الوجود ميتافيزيقيا ، بل انقطعوا لبحثه إبستيمولوجيا ، أي التوجه إلى الطبيعة و دراستها بوسائل التجريب و الملاحظة و صوغ القوانين و النماذج التفسيرية ، إذ سيتطور هذا الإتجاه إلى أن يقول كارل ماركس "دأب الفلاسفة على تفسير العالم ، مهمتنا نحن أن نغيره" حيث سيحدد للفلسفة دور جديد ، ثم إلى أن يُعلن أوجيست كونت عن قيام "المرحلة الوضعية- العلمية" التي حدد فيها للعلم مهمة تقديم تفسيرات فقط عن الطبيعة لا تقديم أجوبة نهائية ، و هو منطق العلم المعاصر الذي يفسر "كيف يحدث الحدث في الطبيعة؟" و ليس "لماذا يحدث بهذه الطريقة؟" ، فالسؤال الأول علمي و الثاني ميتافيزيقي ليس للعلم قبل بالجواب عنه .
بل تطور منطق الفلسفة الحديث إلى درجة دعوة "إدموند هوسرل" مؤسس الفلسفة الفينومينولوجية إلى دراسة العالم كظواهر للوعي فقط ، أي كتَمَثُّل ، حيث دعى هوسرل إلى وضع العالم بين قوسين ، أي التخلي عن البحث في معناه الميتافيزيقي النهائي ، و دراسة فقط المعنى الذي يضفيه الإنسان عن العالم .
هكذا أصبح العلم مع الفلسفة الحديثة نوع من الإنتاج ، فالعالِم أصبح منتج لمعرفة العالَم ، العلم لم يعد هو معرفة الواقع من حيث هو ، أي أشياء الواقع في ذاتها ، بل أصبح معرفة لظواهر الأشياء فقط بعد تنظيمها بمقولات العقل النظري ، و أهمها مقولة السببية (الأحداث تحدث بمسببات قبلية عنها) ، أي خلق العالم خلقا جديدا عن طريق وضعه في نظام العقل النظري ، إستنادا إلى ذلك فنحن لا نعرف العالم كما هو في ذاته ، بل كما هو بادي لنا ، أي بادي للعقل النظري لا غير . و من هنا كل ما يتعلق بالعلم هو يدخل في خانة نظام العقل النظري ، لا في خانة الواقع من حيث هو واقع يضم في ذاته الحقيقة الناجزة ، و بذلك انقطع العلماء بعد كانط إلى التعرف على ما يبدو لنا من نظام العالم تناسبا مع أدواتنا المنهجية لدراسة هذا العالم ، ليس في حقيقته النهائية بل في مظاهره و أحداثه الفيزيقية ، و من هنا جاءت نظريات "نيوتن" و "غاليليو" و "يوهان سكيبلر" و "داروين" ، حيث اشتغل هذا الأخير في حقل البيولوجيا باحثا عن كيفية نشوء و تطور الأنواع ، و ليس على من وضع قوانين هذا النشوء و الإرتقاء و لأي غاية ، مهمة العالم هي دراسة الظواهر و استنتاج القوانين التي تحكمها و ليس دراسة من وضع هذه القوانين فذلك سؤال ميتافيزيقي ، يعتبر خارج مدار اشتغال العلوم .
الفترة المعاصرة من القرن 19م إلى الآن .
ورثت الفترة المعاصرة كل التراث العلمي و الفلسفي للعصور التي قبلها ، غير أنها تأثرت كثيرا بفلاسفة القرن 17م و 18م ، و في طليعتهم كانط - سبينوزا - ديفيد هيوم - جون لوك و ج.ج.روسو ، كل في حقل تخصصه الفلسفي من السياسة إلى الطبيعة مرورا بالقانون و قضايا المجتمع و الميتافيزيقا ، و من ذلك أفلح الكثير من الفلاسفة في أن يصنعوا لأنفسهم مكانة رصينة في عالم الفكر ، غير أن الحدث الأبرز في الفترة المعاصرة هو خروج العلوم من جبة الفلسفة ، العلوم الطبيعية أولا ثم الإنسانية لاحقا ، حيث ما إن توفرت عدة منهجية و استحدثت مواضيع بحيالها و قواعد للدراسة ، حتى ابتعد كل علم بموضوعه و منهجه و انقطع لبحثه و دراساته المستقلة ، إذ تم إسقاط الميتافيزيقا عن الدراسة العلمية و تم الإبقاء عليها في ميدان الفلسفة ، و من ذلك تمايز بحث العلم عن بحث الفلسفة ، بل ما فتئ الفلاسفة أنفسهم منذ القرن 19م يحددون الحدود بين حقل العلم و أمه الفلسفة ، درءا للتقاطع و ترصينا لاستنتاجات كلا نوعي الدراسة الفلسفي و العلمي .
غني عن البيان أن الفترة المعاصرة عرفت آلاف المفكرين و الفلاسفة ، غير أننا سنقتصر كما دأبنا منذ بداية المقال على الفلاسفة التي كانت لأفكارهم فائدة على العلوم منهجاً و تصوراً و حدوداً إبستيمولوجية ، و من هؤلاء "غاستون باشلار" (1884 – 1962) ، الذي انتدب لنفسه إنشاء فلسفة علمية تترجم وتعبر عن مبادئ وقيم علوم عصرها ، فهو يرى أن الأخطاء تشكل عوائق ابستمولوجية يستوجب على العقل إزالتها ، فالتقدم العلمي في رأيه يتم بالصراع بين الجديد والقديم ، و تطور المعرفة لا يتحقق إلا بالتطهير المتواصل لهذه الأخطاء ، مثال ذلك ، هو استيضاح منذ عام 1905 مع نظرية آنشتين في النسبية كثيرا عن المفاهيم الخاطئة التي كانت سائدة من قبله و شهد القرن 20م تطورا كبيرا في مجال العلوم مثل الميكانيكا الكوانتية استنادا إلى تصحيحات نظرية آينشتاين (28).
كما حدد باشلار للإبستمولوجيا ثلاث مهمات كي يتقدم العلم باستمرار ، أولا: إبراز القيم الإبستمولوجية التي تفرزها الممارسة العلمية وذلك بقطع الطريق على كل ما تحاول الفلسفة إدخاله في العلم من قيم أخلاقية ودينية وجمالية ، بل يجب أن يكون مصدر هذه القيم هي النظريات العلمية نفسها . ثانيا: البحث في أثر تطور المعارف على بنية الفكر ، فالعقل بفعل تطور المعارف العلمية وتأثيرها في بيئته سيغدو ديناميا فعلا ، مع هذا الفهم الدينامي لبيئة العقل تصبح كل العراقيل أمام العلم مزاحة ، فاتحة بذلك الطريق لتطوره (29) . أما المهمة الأخيرة فهي التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية، فقد نقل باشلار هذه النظرية إلى الإبستمولوجيا ، فافترض أن ثمة مكبوتات عقلية ليظهر أثرها في البحث العلمي ، على فيلسوف العلم أن يكون المحلل النفسي للمعرفة التي ينتجها العقل ، و التحليل النفسي بهذه الطريقة سيمكننا من فهم هذه المعرفة و استجلاء الأخطاء التي تعرقلها ، من أجل إزاحتها أمام تقدم العلم (30) .
من سمات نظرية المعرفة العلمية عند باشلار ، إنها ترفض العقل قبل العلمي وتقول لا لعلم الأمس ولا للطرق المضادة في التفكير ، حيت يجب النظر إلى الفكر على أنه عامل تطور عندما ينقد الواقع ، فهي فلسفة (أي نظرية المعرفة) لا تعترف ببناء و لا بنسق ، بل ترى فقط بناء و تجدد باستمرار على ضوء اكتشافات البحوث العلمية ، ثم إن أي نظرية في المعرفة هي "غير مكتملة" ، ما يفتح الباب على التطوير الدائم ، كما أنها معرفة تستقي موضوعاتها و مناهجها من العلم ذاته ، بشكل عام فالسمة الأساسية في الإبستمولوجيا الباشلارية هي اهتمامها الكبير بجوانب النقص و الخطأ والفشل أكثر من اهتمامها بالايجابيات ، و هو ما يوجه اتجاه بوصلة العلم إلى أخطائه كي يتداركها ويصححها (31)، يقول باشلار: "تاريخ العلم ليس سوى تاريخ أخطائه" .
و هو ما أدخل للعلوم المعاصرة بشكل متزايد سمة النسبية في المعارف ، و هو ما ينفع كثيرا في مداومة الشك و إعادة النظر في معارفنا العلمية و بالتالي تطويرها أكثر فأكثر في سياق نظريات أكثر تماسكا .
إلى جانب ذلك يعتبر "كارل بوبر" من نقاد أساس العلم و منهجه ، حيث يرى أن العادة جرت على تسمية الإنتقال من القضايا الجزئية التي تصف نتائج الملاحظات و التجارب التي يقوم بها العلماء ، إلى "القضايا الكلية" بأنه "استدلال استقرائي" و هو أساس من أساسات العلوم المعاصرة ، إذ ينقض بوبر هذا الأساس حيث يصفه بأنه بعيد عن الوضوح و الدقة على جهة النظر المنطقي ، فليس هناك ما يسوغ إستدلال قضايا كلية من قضايا جزئية ، مهما كان عدد هذه الأخيرة ، لأن أي نتيجة مستدلة بحسب هذا المنوال ، يمكن أن ينتهي بها الأمر إلى أن تكون خاطئة ، يحتج بوبر قائلا: "مهما كان عدد الحالات التي نلاحظ فيها أوزا أبيض ، فإن ذلك لا يسوغ الإستنتاج بأن الإوز ، كله أبيض" (32).
إشكالية تسويغ الإستدلال الإستقرائي هي ما صار يعرف بـ"إشكالية الإستقراء" كأهم إشكالية عويصة أمام المعرفة العلمية في القرن 20م ، حيث يقصد بالإستقراء: "درس الذهن عدّة جزئيات ليستنبط منها حكماً عامّاً" ، و يمكن صياغة إشكالية الإستقراء بالقول ، إنها مختصر الشك في إمكانية تقديم معرفة صحيحة حول قضايا كلية من خلال الإقتصار على دراسة قضايا جزئية ، حيث تقوم معظم العلوم على "الإستقراء الناقص" منذ فرانسيس بيكون (أي الإستقراء لبعض الجزئيات حتى و ليس كلها) ، و بذلك شك "بوبر" في صوابية القضايا الكلية المبنية على التجربة ، مثل فرضيات العلوم التجريبية ، و أنساقها النظرية ، و بعد نقده و رفضه الإستقراء يضع بوبر منهجا جديدا ، يسميه: "منهج الفحص الإستدلالي" ، و مفاده أن الفرضية يمكن فحصها تجريبيا فقط ، و فقط بعد صياغتها ، و هذا المنهج يمكن تسميته "المذهب الإستدلالي" ، في مقابل المذهب الإستقرائي (33) ، و يعطي بوبر هذا المنهج اسما آخر ، في مقابل ما عرف بمنهج الوضعيين المنطقيين ، الذي يعرف معنى القضية بإمكانية التحقق التجريبي ، من صدق ما تقدمه فرضية أو نظرية من معرفة أو تفسير ، و هو المذهب المسمى بـ"منهج قابلية التكذيب" بواسطة الفحص و إعادة الفحص للفرضيات و تفسيرات النظريات العلمية باستمرار (34) .
من جانب آخر يعتبر "بول فايرابند" من أهم فلاسفة العلم و أعجبهم طرحا ، حيث أسس لأطروحة "عدم إمكان المقارنة" ، التي تعني أن نظريتين علميتين يستحيل مقارنتهما ، فهما تتصفان بالإنفصال المنطقي ، حيث تعتبر هذه الأطروحة بمثابة حرب على الإتجاه العلمي السائد الذي عرف "الواقعية العلمية" ، التي يقوم على مبدأ وجود حقائق خارجية (موضوعية) تشكل المرجعية التابثة لمقارنة النظريات ، و بعض أنصار هذا الإتجاه في التفكير العلمي يذهبون إلى حد اعتبار العناصر غير الملاحظة مثل الذرة و الإلكترون ، و غيرها من الدقائق ذات وجود بالفعل .
و أفضل طريقة لفهم فكرة فايرابند هي قراءة كتابه: "ضد المنهج Against Méthode" ، بخاصة عندما يعرض بالتحليل ، حالة غاليليو غاليلي الذي كان أحد مؤسسي علم الفيزياء ، مثل اسحاق نيوتن ، قد انتهى فايرابند من درسه تلك الحالة إلى تبيان أن غاليليو جاء بنظرة علمية جديدة إلى الكون ، تختلف كل الإختلاف عن النظرة الأريسطوطاليسية ، و بذلك لا يمكن مقارنتهما على الإطلاق (35) . و لتقريب الأفهام من موقف فايرابند ، نذكر بما قلناه عن كانط ، حيث إن مبادئ العقل أو مقولاته تؤثر في المعطيات الحسية التي ترد من الخارج إذ تعمل على تنظيمها ، لكن فايرابند يرى أن العالم الخارجي و أشياءه تفهم نسبة إلى نظرتنا إليه ، و ليس نظرتنا إليه هي التي تفهم نسبة إلى عالمنا الخارجي ، فالنظرة أو النظرية أو الأفكار العلمية ، و ليست أشياء العالم الخارجي هي المرجعية ، و هي المضاف إليه و كل ما عداه مضاف (36).
و بذلك شكلت فلسفة العلم في القرن العشرن ، مبحثا مهما كان من نتائجه توضيح أعطاب مناهج العلوم من أجل تداركها و تصحيحها ، و بالتالي تطوير المعرفة العلمية بشكل عام .
هكذا إذن تكون الفلسفة بظهورها ظهر فكر جديد قطع كليا مع أنماط التفكير القديم (الأسطوري) ، كي يؤسس لنمط تفكير جديد يتأسس على التأمل المنطقي و التفكير العقلاني ، وهو ما دفع إلى استهلال رحلة العلم الإكتشافية للوجود ، أكثر من ذلك ما فتئت الفلسفة منذ ظهورها تبحث عن السبيل الأمثل لخلق معرفة تتميز بأكثر مستويات الموضوعية حول العالم ، و ذلك من خلال إبداع مناهج التفكير و البحث الأكثر تناسبية مع طبيعة الوجود من جهة ، و طبيعة حواسنا و عقولنا و أدوت بحثنا من جهة أخرى ، من ذلك إذا أرنا استعارة تشبيه ينطبق على علاقة العلم بالفلسفة ، لقلنا أنها تشبه جبلا جليديا لا تظهر منه إلا القمة ، فما الجبل إلا المعرفة التي أنتجها الإنسان منذ أن اكتشف ملكة التفكير ، و ما أساسه الضخم إلا الفلسفة و ما قمته البادية إلا العلم. و به تكون الفلسفة أكثر أنواع المعرفة البشرية التي شكلت محركا نشيطا ساعد العلم على الظهور ، ثم طور كثيرا مناهجه و بالتي دفع باستمرار معرفته إلى الأمام .
_______________________________
إحالات و مراجع:
(1) Émile Durkheim , "LES FORMES ÉLÉMENTAIRES DE LA VIE RELIGIEUS, Le systme totmique en Australie" , péréface de michel maffesoli , CNRC éditions (1983), (premiére édition 1912) .O
(2) فراس السواح ، "مغامرة العقل الأولى" ، دراسة في الأسطورة ، سوريا و أرض الرافدين ، دار علاء الدين للنشر ، طبعة 11 ، ص 55.
(3) فريديريك نيتشه ، "الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي"، تعريب سهيل القش ، مجد للنشر و التوزيع ، الطبعة الثالثة ، بيروت 2005 ، ص 46.
(4) Claude Henry Du Bord , "La Philosophie Tout Simplement" , édition, Eyrolles 2007 , p 3
(5) أ.هـ. آرمرسترونغ ، "مدخل إلى علم الفلسفة" ، ترجمة سعيد الغانمي ، مركز كلمة بشراكة مع المركز الثقافي ، الطبعة الأولى 2009 ، ص 27.
(6) عمر فروخ ، "العرب اليونان و أوربا، قراءة في الفلسفة" ، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات ، الطبعة 1 ، بيروت 2015 ، ص 55-56.
(7) وول ديورنت ، "قصة الفلسفة" ، ترجمة فتح الله محمد المشعشع ، مكتبة المعارف ، طبعة السادسة ، بيروت 1988 ، ص 12-18.
(8) يوسف كرم و ابراهيم مذكور ، "دروس في الفلسفة" ، دار عالم الأدب ، الطبعة الأولى ، بيروت 2016 ، ص 79.
(9) أ.هـ. آرمرسترونغ ، "مدخل إلى علم الفلسفة" ، مرجع سابق ، ص 59-97.
(10) وول ديورنت ، "قصة الفلسفة" ، مرجع سابق ، ص 73-118.
(11) جورج زيناتي ، "الفلسفة في مسارها" ، دار الكتاب الجديدة المتحدة ، طبعة 2 ، بيروت 2013، ص43-44.
(12) تقي الدين المقريزي ، "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" ، الجزء1 ، ص159.
(13) جورج زيناتي ، "الفلسفة في مسارها" ، مرجع سابق ، ص 46-50.
(14) يوسف كرم و ابراهيم مذكور ، "دروس في الفلسفة" ، مرجع سابق ، ص 207-208.
(15) محمد لطفي جمعة ، "تاريخ فلاسفة الإسلام" ، دار هنداوي ، بيروت 2012 ، ص 21-31.
(16) علي طالب ، "أضواء في تاريخ الفلسفة" ، دار الولاء للطباعة و النشر ، طبعة 1 ، بيروت 2017 ، ص 120-124.
(17) مصطفى غالب ، "في سبيل موسوعة فلسفية- الفرابي" ، دار مكتبة الهلال 1995 ، ص 39.
(18) محمد لطفي جمعة ، "تاريخ فلاسفة الإسلام" ، ص 37-38.
(19) مصطفى غالب، "في سبيل موسوعة فلسفية- ابن سينا" ، دار مكتبة الهلال ، طبعة 1991، ص 34.
(20) د. علي عبد الله الدفاع، "إسهام علماء العرب والمسلمين في الكيمياء"، بيروت 1988م، ص 240- 242.
(21) محمود زيدان ،"نظرية المعرفة عند مفكري الإسلام" ، دار المتنبي ، الرياض ، طبعة 2012 ، ص 176.
(22) مصطفى غالب،"في سبيل موسوعة فلسفية- ابن رشد"، دار الهلال 1995 ،ص13-87.
(23) ستيوار هامبرش ، "عصر العقل، فلاسفة القرن 17م" ، ترجمة ناظم طحان ، دار الحوار للنشر و التوزيع ، اللاذقية 1986 ، طبعة 2 ، ص 18-19.
(24) رينيه ديكارت، "مقال عن المنهج" ، ترجمة محمد محمود الخضيري ، دار الكتاب العربي ، القاهرة 1968، طبعة 2 ، ص 130-131-132.
(25) يوسف كرم و ابراهيم مذكور ، "دروس في الفلسفة" ، مرجع سابق ، ص 381-437.
(26) جورج زيناتي ، "الفلسفة في مسارها" ، مرجع سابق ، ص 177-184.
(27) إدموند هوسرل ، "فكرة الفينومينولوجيا" ، ترجمة فتحي إنقزو ، منظمة الترجمة العربية ، طبعة 1 ، بيروت 2007 .
(28) غاستون باشلار: "تكوين العقل العلمي" ، ترجمة د.خليل احمد خليل ، المؤسسة الجامعية للداراسات والنشر و التوزيع ، بيروت ، ط1 ،1981 ،ص 8 .
(29) حسن علي الكركي, "الابستمولوجيا في ميدان المعرفة"، شبكة المعارف، بيروت، لبنان، ط1،2010 ص 122 .
(30) رافد قاسم هاشم: "ابستمولوجية المعرفة العلمية عند باشلار"، مجلة مركز بابل للدراسات الانسانية، جامعة بابل، 2013 ، ص197 .
(31) مینة زوار و كوثر زرقین ، "بنیة المعرفة العلمیة عند غاستون باشلار" ، رسالة ماجستير ، جامعة الجزائر ، موسم 2015/2014 ، ص 15-16 .
(32) (Karl Popper , "Thé logic of scientific Discovery" , (London, New York) , 1992 , p 27
(33) .Ibid , p28
(34) .Ibidm , p40
(35) Paul fayerabend , "Against Méthode" (London , New Yourk , Verso , 1980 ) , p89
(36) طوماس كون ، "بنية الثورات العلمية" ، ترجمة حيدر حاج اسماعيل، منظمة الترجمة العربية ، ط 1 ، بيروت 2007 ، ص 18.