" إسلمي يا مصرُ إنني الفدا .. ذي يدي إن مدّت الدنيا يدا" .. كان وقعُ هذه الكلمات على نفس الفتى بعيد المدى، تتسارع نبضات قلبه، تسري رعشة هادئة بين الخلايا، ينطوي الماضي والحاضر أمامه ليسقط كلاهما في بؤرة تلك الأرض التي يُسميها (وطن)..
" لكِ يا مصرُ السلامة وسلامًا يا بلادي .." يمتلئ كأس وطنيته عن آخره، تنتشي روحه لتُصافح السماء كأنما وقع على سرٍ من أسرار الكون أو أن الجمال المبثوث في العالم قد تجسد أمامه – كاملًا – في تلك الأرض ..وفي ذلك المعنى المجرد ! ..وكم عزّ على نفس الفتى أن تُغادر الوطن بمعنى المكان وكم آلمها أن يُغادرها الوطن بمعناه في الحس والوجدان .
الوطن ..ذلك المعنى المجرد الذي نراه بالحس أكثر مما نراه بالحاسة وندرك أهمية وجوده دون أن نميز كيفية وجوده، نشعر به في صدورنا كمحبوب لا غنى عنه، ونصدقه بعقولنا كحقيقة لا ريب فيها، نصدقه .. تمامًا كما نصدق بعض خيالنا لأننا نحتاجه، والحاجة لوجود شئ ما هي مُبررٌ كافي لوجوده .. أليس من العجيب أن تكون أهم حاجاتنا – نحن البشر- هي معاني ومفاهيم مجردة لا تتمثل في الماديات إلا قليلًا قليلًا. حسنًا، لا أدعي أن حاجة الإنسان إلى وطن تفوق حاجته للطعام والشراب، لكنني لا أظن أن حياة المرء قد تستقيم وتتوازن إن ظل عالقًا في قاعدة ( هرم ماسلو ) دون أن يعيش معنى أن ينتمي لشئ ويعود إلى أصل تتقاطع عنده جميع طرق رحلته .
أعتقد أن أثمن ما فقده ( العربي) خلال أحداث صيفه الطويل هو شعوره العميق بانتمائه إلى وطن، ولربما فقد وطن المكان أيضًا فاجتمعت عليه غربتان، غربة المكان وغربة النفس وقد يحتمل المرء الأولى لكنه يضيق ذرعًا بالثانية .
كيف لذلك المسافر أن يتذكر وطنه دون أن يبادره صوت سُعاله إذ أنه أُصيب بعدوى السُّل خلال تواجده كمعتقل سياسي في ( الوطن )....!
وكيف لتلك الصغيرة أن تتحدث عن وطنها دون أن تذكُر دموعها أمام القاضي إثر تجديد حبسها المُتكرر في ( الوطن)....!
وهل يُمكن لذاك الطفل أن ينسى بُكاء والده اللاجئ من الحرب إلى المجهول، وكيف يُمكننا – أصلًا – أن نحكي له بعد ذلك عن الوطن ؟!
واهًا لك ياوطن، أين نمضي ونحن نحمل جرحك المكابرفي حِلنا وترحالنا، أين نمضي و قلوبنا مُثقلةٌ بك، غريبةٌ فيك وعنك.. ليتك محبوبٌ يؤلمنا هجره زمنًا ثم نسلو عنه وننسى، لكنك قيمةٌ ثابتة في وجداننا وضميرنا، إن سلونا عنك ذكرتنا نفوسنا بك !
حين قدم الصحابي أصيل الغفاري من مكة إلى المدينة في بداية الهجرة، سألته السيدة عائشة عن مكة وأحوالها، فأخذ يصف مكة وشعابها فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : " كفى يا أصيل، دعِ القلوب تقر" .. وماحيلة القلوب إذا ما الشوق غلبها، وضاقت ذرعًا باغترابها، وكيف لها أن تقِر والحرب لم تضع أوزارها .. كيف لها أن تقِر وهي لا تدري على أي حالٍ يكون لقاءها بحِبها .
-
Mariam Mostafaنحن نكتب لننتصر ..لأننا أقوى من كل ما نستطيع التعبير عنه فالحروف هي انتصاراتنا المتواضعه على ضعفنا قبل كل شئ