وكأنها مقهى كبير , ونحن .. زبائنه الأوفياء !! .. بقلـــــم / نـــــورا محمـــــد .
نشر في 24 ديسمبر 2019 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
هذه الحياة التي تغوص بكيانك فيها دون أن تعترض ولو بحرف عما تستنفذه فيك وتتفن في سلبه منك من قوى عقلية ونفسية , لم يتسنى لي أن أراها إلا بهذا التشبية , فإليك الصورة وعلي إيضاح مُبرراتي لرؤيتي ..
ألم تمر يوماً بمقهى في أرض المحروسة ؟ , كان كبيراً على أحدث طراز ومُزود بأدواته الساحرة القادرة على إراحة عقلك للحظات من فكره العنيف الذي يضرب عقلك من جديد بمجرد أن تضرب أنت بخطواتك خارج هذا الحيز الذي تعتبره عالماً آخر عن واقعك الفعلي , أو كان مقهى بسيطاً يُشبه كوخ مُزري تستريح فيه الأرجل من مشقة السفر والترحال بمُنتصف أي طريق صحراوي ولكنه وبرغم خلوه من أدواته المُبدلة لحالك في أقل من لمح البصر فهو العالم المختلف الذي تفر إليه وتجد فيه سعادتك المنسية , في كلا الحالتين سيظل هو المكان المُفضل لمن أراد أن يُلقي بإضطراباته جانباً ويسرق من الزمن لحظات يستعيد فيها حيوية نبضه من جديد ..
نعم نحن نُقيم بهذا المكان ليل نهار , ونجد في الخروج منه خروج روحنا من أجسادنا هي الأخرى لتُعلن عن نهاية قصتنا , تتعدد فيه الوجوة وتختلف , منها الأشقر الذي يفوح منه رائحة عطرية خلابة تجعلك تتساءل في قرارة نفسك بتعجب يمتزج بـ حيرة قاتلة " كيف لهذا الأنيق أن يأتي لهذا المكان السالب لإتزان العقل ؟ , وكيف يسمح لنفسه أن يتخلى عن عطره الآخاذ ويستبدله بروائح ذات طابع دخاني عنيف لن يترك فيه إلا السُعال والأمراض الصدرية المُزمنة ؟! " , ولكنك تُزيح تلك التساؤلات في النهاية لتُسطر أجوبتها بجملة واحدة " هنا الكل سواسية , فأهم مافي الأمر هو الفرار من عنف الفكر الذي ينتظرهم بالخارج وبعد خطوات قليلة سيقتنصهم بلا هوادة " , وستجد أيضاً صاحب الجلباب المُهرول , الذي قد أعلن هلاكه من كثرة إستعمال هذا البشري له , ارتداه لدرجة أنه قد أقسم أن يُكفن به ! , ستجده يجلس في هدوء كأنه عائد إلى منزله الحقيقي الذي افتقده لفترة , والآن وبعد عودته سيتبدل عبوس وجهه إلى إبتسامة صارخة بمجرد أن يجد رفاقه يتراصون على طاولته المُجاورة ليُعلنوا سوياً عن بدء المرح الحقيقي , بل وستجد الطفل أيضاً الذي لم يتعدى عمره عدد أصابع يده ذات الأنامل الرقيقة البريئة , جالساً مع والده ولك أن تسرح بخيالك عن الأسباب التي تدفع الوالد لجلب طفله الفطري لهذا المكان , قد يكون السبب هو التخلص من " زنه المتتالي المعبر عن فراغ عقله " ..
ولكن أياً كانت الأسباب فهذا المكان لا يختار زبائنه .. إنها الحياة المفروضة عليك ! ..
تتهافت الأصوات على " الصبي " المسئول عن جلب وسائل السحر الخاصة بهم , تتعالى وتُدوي أرجاء هذا العالم ليُحاول هو تلبية جميع الطلبات , وبرغم كثرتها يتمكن من المجئ بكل الطلبات كاملة دون نُقصان أو خطأ ! , هو بالنسبة لهم " صاحب السعادة الأوحد " , هو جالب الحظ لهم , هو من يأتي لهم فتأتي معه راحة بالهم المؤقتة , فأصبح مُبجلاً في نظر الجميع والكل يعرفه أشد المعرفة ولا يجرؤ أحد على التطاول عليه يوماً , ولكن ماذا عنه ؟! , ألن يجد من يمنحه هو الأخر بعضاً من راحة البال الذي ينشرها لمن حوله ذات يوم ؟! أم أنه مصيره في الحياة ان يقدم لا أن يُقدم له ! ..
تتوالى الساعات في سعادة وراحة وعبث وتحدث في لا شئ , تخترق ألسنة الدخان أنوف الجالسين وتبعث في عقولهم أحاديثاً من العدم , فتنبعث منهم الضحكات وتنتفض أرض ذاكرتهم لمواقفهم الطريفة التي وثبت بضحكاتهم إلى السماء , ويقتطع كل هذا أصوات مُخيفة لتُعلن عقارب ساعة الواقع عن إنتهاء كل هذا ! , فما عليهم الآن إلا أن يتهافتوا من جديد على صبيهم المُبجل لأجل دفع ضريبة كل هذه الراحة , وبعدها يتوافدوا على باب هذا العالم الذي لو كان بودهم لن يتركوه أبداً ولكنها أوامر يتوجب عليهم إطاعتها , فتودع الأيادي بعضها البعض , وكأنها المرة الأخيرة , وتنسحب القبضة من القبضة الأخرى وبعد أن كانت الألسن مُتشابكة بالأحاديث الساهرة الآن قد تباعدت وهدأت حركتها , ينظرون لمجرى الواقع الذي ينتظرهم بالخارج والعودة من جديد له فتتضارب في عقولهم مجدداً الأفكار ويعود نبضها ليتسارع أخيراً , وكأن الأفكار قد خلدت لغفوة سريعة وحان الآن موعد إفاقتها ! ..
وبخطوات مضطربة مُتأرجحة , تتساءل .. هل تتقدم أم تعود للعالم الكامن خلفك من جديد ؟! , ولكن لا جدوى الآن سوى الإقدام , فتتقدم الأرجل والخطوات في إختلال تحاول أن ترسم على وجهها الإتزان والتماسك ليبتلعها الواقع وتختفي عن أنظار من يجلس بالداخل و يجد في ليلته وقتاً إضافياً قبل هذه الخطوة العنيفة الآتية لا محالة ..
وبعد ان اخبرتك مُبرري في التشبية , ألم ترى الآن أننا نحيا في مقهى كبير نحاول الفرار منه ببعض الوسائل القادرة على منح السعادة وراحة البال " المؤقتة " ؟ ثم العودة للواقع الذي لن يمهلنا الكثير من الوقت لنعود إليه مرة أخرى ! .