ردّا على مقال ”أوّل نوفمبر ليس ملكا للأصوليين الظلاميين“ للكاتب الصحفي (معمّر فارح).
نشر في 30 يونيو 2024 وآخر تعديل بتاريخ 30 يونيو 2024 .
”سي معمّر“، العم و الأخ الكبير، الشخص البشوش، المتواضع الوسيم. والفكاهي الذي لا يملّ جليسه من الاستماع إليه وإلى نكته الهادفة… أوّل مرّة يحصل لي فيها شرف معرفتي بالرّجل كان في نهاية الثمانينيّات بالجزائر؛ كنتُ رفقة صديق لي، من أبناء عمومته وابن خاله، ذهبنا لرؤيته بمقر الجريدة، فخرج إلينا مسرعا ولم يتركنا ننتظر كثيرا، على الرّغم من كثرة انشغاله. ورافقنا إلى الجامعة المركزية أين قمنا بتقديم ملفّي التسجيل. ابن مداوروش البار؛ بقي يحافظ على حبّه ووفائه لمسقط رأسه ولأصدقائه، أصدقاء الطّفولة وزملائه الذين درس معهم في الثانوية.
انتماء (معمّر) إلى جيل الخمسينيات، هذا الجيل المفرنس بامتياز لديه خصوصية؛ فهو يتفوّق على جيلنا، جيل ما بعد الاستقلال، من ناحية اتقانه اللّغة الفرنسية. ويتميّز علينا أيضا بثقافته الواسعة؛ فقد حظى بتعليم خاص قبل اعتماد النّظام في الجزائر ما بعد الاستقلال سياسة ”ملء الفراغ“؛ التي انتهجها بعد الشغور الذي صار يهدّد المدرسة الجزائرية إثر المغادرة المقصودة للكفاءات الأجنبيّة للجزائر.
توطّدت هذه العلاقة بسي (معمّر) في مطلع تسعينيّات القرن الماضي، وفي ظروف أجبرت معظم الشخصيات والوجوه الكبيرة المعروفة على التخلّي عن مهامّهم و مغادرة أماكن عملهم. فكانت تلك ثاني فرصة لي أتشرّف فيها بمعرفته. ثم لقاء آخر تمّ بمداوروش، جعلني استأنس كثيرا بكلام هذا الصحفي المتواضع صاحب الحس الفكاهي، ونحن نتجوّل بسيارة البيجو البيضاء من نوع 204، في ضواحي البلدة. أين أسرّ إليّ ببعض الأسرار؛ على أن وجوده بمداوروش ليس بغرض الاستجمام وإنما لتغطية ما يجري في الحدود الشرقية من استنزاف للاقتصاد الوطني. العملية التي تبنّاها رئيس الحكومة السابق (مولود حمروش) صاحب فكرة: ”الأيادي البيضاء“.
كان (معمّر) يومها في حاجّة إلى ”خيط صحيح“ لإجراء تحقيق في إطار المهمّة التي أُوكلت إليه. وكان لديّ حينها علاقة بشخص من أبناء (مداوروش) يعمل لدى الأمن الوقائي بسوق أهراس، تم تكليفه بالبحث عن مهرّبي المواد المدعومة من طرف الدولة ذات الاستعمال الواسع، بمنطقة المراهنة بالحدود الشرقية، ومن بينها مادّة المازوت على وجه التّحديد. قبل أن يقوم الرّئيس (الشاذلي بن جديد) رحمة الله عليه بحل جهاز المديرية العامّة للأمن والتوثيق (La DGDS) أو كما كانت تسمّى.
أخبرته بأن (معمّر) طلب منّي معلومات واقترحتُ عليه إجراء لقاء بينهما لأجل التّواصل، فرفض رفضا قاطعا، وقال لي بالحرف الواحد: ”هل تعرف مع من تتعامل“؟ و قال الشخص الآخر الذي كان برفقته، وكان يزعم هو الآخر انتماؤه إلى جهاز الأمن الوقائي: ” ليس ثم فرق بين صحفي وشرطي بالنسبة لي“.
وبقي (معمّر) ينتظر مجيئي بصبر نافد ”على أحر من الجمر“ وإلى وقت متأخّر من اللّيل، حسب ما قاله لي في الصباح وهو يبدي امتعاضا شديدا ولم يخف غضبه منّي؛ وأنّني قد خيّبتُ كل آماله… على الرّغم من محاولتي إقناعه بكل ما جرى بيني وبين الشخص المذكور من محاولات استمالته. لكنّني عرفتُ كيف أرقّع الأمر في الأخير، وعرضتُ عليه وساطة والدي - رحمه الله - وكان يومها رئيس فرقة الحرس البلدي بذات المكان، وعقدنا اتفّاق جديد وجددنا العهد من جديد على أمل اللّقاء. واخبرتُ المرحوم والدي، فرضي وقبل بالمهمّة.
وكان لقاء آخر، وليس أخير، جمعني بـ(معمّر) في مقرّ جريدته ”آخر ساعّة“ بشارع الثورة بمدينة (عنّابة)؛ ذهبت خلالها رفقة صديق كان ينوي شراء شاحنة مصمّمة لنقل البضائع تم عرض بيعها بالجريدة المذكورة. وتوالت اللّقاءات بعدها يوما بعد يوم، و بمناسبة وبغير مناسبة. وكان من بينها أن حصل لي شرف تقديم شهادة شكر بمدينة (مادور) الأثرية، تقديرا وعرفانا بما قدمه (معمّر)، ونزولا لدى رغبة منظّم الحفل الذي تم تخصيصه للاحتفاء بهذا الصحفي المحنّك.
وبالأمس؛ جمعتني الأقدار بصديق حميم؛ اشتقنا لرؤية بعضنا بعض، بأحد المقاهي الشعبيّة. وانضمّ إلينا بعض الأصدقاء والوجوه المعروفة، وكان من بينهم صديق حميم لمعمّر، لا يفتأ يذكر (معمّر)، ويذكّرنا به وبما يكتبه (معمّر) من مقالات في جريدة (Le Soir d'Algérie) الذي هو من بين مؤسّسيها. ليرينا مقالا جديدا كتبه (معمّر) في الجريدة المحترمة بعنوان: !Le 1er Novembre n'appartient pas aux intégristes obscurantistes
لا أحد يستطيع المزايدة على وطنية هذا الصحفي الكبير، لكن بعض المتابعين له، المهتمّين بآرائه وبما يكتبه، يأخذون على هذا الصحفي الكفء والرّجل النّظيف، بغضه الشّديد للإسلاميين. وهو الأمر الذي لا يجدون له مبررا، سوى أن (معمر)؛ الذي نشأ وترعرع في أسرة تتبنّى إسلاما تقليديّا، يكون قد تأثّر كثيرا بالمدرسة الكولونيالية التي لم تدّخر جهدا في نشر التنصير في الجزائر، وفرض اللاّئكية اللاّدينية على الجزائريين. بالإضافة إلى عوامل أخرى كان لها الأثر في ترسيخ قناعات غريبة عن الأسرة والمجتمع الذي نشأ وترعرع فيه (معمّر)، من بينها مثلا: الوسط المهني، والحرب الأهلية التي عرفتها الجزائر في التسعينيات، والتي يُقال إن (معمّر) الذي هو من بين ضحاياها، كان قد تلقّى تهديدا من قبل الجماعات المسلّحة.
كوني عشتُ تلك الحقبة؛ كعون وإطار في أهم وأخطر هيئة تم توظيفها لخدمة أغراض السلطة آنذاك، وفي تلك الحقبة من تسعينيّات القرن الماضي. وكوني واحدا من أبناء جيل ما بعد الاستقلال ممّن درسوا في المدرسة الجزائرية وعلى يد جزائريين، ومشارقة متعاونين كان لهم الفضل في الصّحوة التي عرفتها الجزائر نهاية السبعينيات؛ بعد محاولات تنصير وتغريب تعرّضت لها الجزائر، قبل وبعد الاحتلال. أرى أن الذنب الوحيد الذي ربما يكون قد اقترفه النظام الجزائري يتمثّل في إيقاف المسار الانتخابي والانقلاب على الارادة الشعبية. هذا المكسب المتمثّل في الحرّيّة التي من أجلها ضحّى الشعب الجزائري وانتصر لثورته.
فهي ثورة الشعب الذي حاولت فرنسا تغيير هويته، ولم تستطع. ولقد فتحنا أعيننا نحن أبناء جيل ما بعد الاستقلال على بعض المظاهر السلبية التي لا تتماشى والقيّم الرّوحية والأخلاق الإسلامية التي هي من قيّم وتقاليد هذا الشعب؛ مثل انتشار الخمر وبيوت الدعارة، و ”الميني-جيب والميكرو-جيب“، وتشبّه الذكور بالإناث و و و… و اعتبرناها من الحرّيّات الفردية والشخصيّة التي من أجلها قامت الثورة. ولم ننعت أصحابها بالمخنّثين مثلا، ولا بالظّلاميين، على الرّغم من مخالفتهم للقيّم والأخلاق التي جاء بها الدين الإسلامي الحنيف .
وتبقى الموضة في الأخير، من الأشياء التي لا يمكن فرضها على الناس. ”كل واحد يدير واش بغى في عشاه“، وفي حدود ما تسمح به القيم والدين والأعراف. وحتى القوانين الوضعية لا يمكنها أن تفرض على المواطنين نمط حياة معيّن، ولا لباسا بعينه، ولا مظهرا من المظاهر التي تدلّ على تدخّل النظام في حياتهم الشخصية، سوى في جمهوريات ”الموز“ التي لا تحترم خصوصية وإرادة شعوبها.