كانت تغريني ..
كانت تغريني رائحة القهوة في الصباح مع صوت فيروز.. كانت تغريني أرصفة الطرقات المبللة بالمطر الخريفي، وكان يغريني الكتاب بشدة .. عنواين الكتب المشردة على الأرصفة، النائمة على أسوار الحدائق، وتلك الكتب المعجرفة ذات الأغلفة القاسية التي كانت تتكئ على رفوف المكتبات .. ورؤيتك سارحة .. ياه كم كانت تغريني حتى أسرق من شفتيك قبلة .. وبعدها أذوب!
نشر في 06 نونبر 2018 .
إنه يوم ميلادي السابع والأربعون، يا إلهي كم أشعر بالأسى، بالوحدة، بالشفقة على نفسي وأنا أحتفل كالمعتوه بمرور عام من عمري، اطفئ شمعة جديدة .. واقترب من الظلام أكثر وأكثر.
إن السنوات التي تمر بعد عامكَ الثلاثين .. تمر مسرعةً جداً وكأنها على سباق مع الزمن، تلك الأعوام التي تضعك على المحك، حيث تصبح رؤيتك للأشياء أكثر انتقائية، ويصبح طيش الشباب أخف مع الوقت، لكنك بالحب لن تصبح حكيماً أبداً ..
قلبك الذي يفقدك بوصلة الدرب، الدموع التي تتركها خلفك على الوسائد، على أرصفة الطرقات، في نوادي الشباب، مع كل عقب سجائر ستكره رائحته عندما تتعرض لذبحة قلبية فيما بعد .. رغم أن السجائر لم تكن السبب في مرضك، بل كان سم الحب البطيئ الذي غدر بك وأتلفك مع الوقت ..
عندما تحب في الثلاثين هذا يعني أن هذا الحب سيؤلمك، لأنه لن يكون كحب المراهقة، تداويه أغاني الفراق الرائجة، وبعض الروايات القصيرة، والأفلام الرومانسية ذات النهايات الحزينة .. سيبدو من غير المنطقي أن يذرف رجل في العقد الثالث من العمر دموعه على الملء، في صالات السينما، على مقاعد المسارح، في المقاهي .. لذا هذه الدموع التي سيكتمها بحجة العمر ستقتله بذبحة قلبية ..
ورحلت يا أيها الصديق القريب البعيد، تاركة قلبي ملتاعاً بنار الفراق، جربنا كل الوسائل الممكنة .. لم يكن يهمني أن أصبح أباً، كنت أقدسها لدرجة أنني كنت أراها ابنتي، أخاف عليها من الزكام، من شوك الورد، من أنين الليل .. من عتمة تشرين وكانون.. لكن تلك الحرب لم تكن سهلة أبداً! لقد بدأت حربي مذ كنت صغيراً وكانت تغريني الكتب، حيث كنت أقضي معظم وقتي في القراءة وما تبقى في لعب الطابة في أزقة الحي مع أصدقائي .. تلتها الحرب العالمية الثانية عندما أخبرت أهلي أنني أريد أن أصبح عازف بيانو ..
اليوم أنا محامي، مهنة أكرهها .. تشعرني بالاشمئزاز، بالظلم، بالرشوة.. بالدم! لا أدري كيف أصبحت محامياً لكنه كان حكم أهلي القاسي التعسفي، ثم جاء القرار الثاني بزواجي الفاشل من ابنة عمي وبعدها الطلاق الذي جعلني منبوذاً عائلياً!
كان علي أن أتحمل كل شيء حتى أبقى أسيراً لهذا الزواج الفاشل البارد، بالمقابل كنت سأكسب عائلتي، كنت سأنجب أطفالاً. .. وسأكون أباً روتينياً، يعزف البيانو بالسرقة كأنه يتاجر بالممنوعات ..
الهواتف والدموع والكلمات الجارحة .. ثم أحببتها! التقيتها صدفة في أحد الأمسيات الشعرية لصديق، شعرها الأسود الذي انسدل أمواجاً على كتفها العاري، بريق عينيها، رائحة عطرها .. حديثها المشوق، كل ذلك أغراني لاقترب أكثر وأكثر منها .. ثم أتت اللعنة .. فرق الدين الذي جعلنا نخسر من عمرنا سنين ونحن نسرق الحب سرقة..
ثم سلمتني جسدها الطاهر، استبحت عذريتها فقط كي نرغم أهلها على الزواج، طردني والدي من منزله، لعتني أمي .. بكت شقيقتي، شمتت بي طليقتي .. لكن عاد كل شيء بعد مرور عام لمجاريه .. قبل أن نكتشف أننا معاً لا نستطيع الإنجاب!
ياااه .. كم كان قاسياً كلام الطبيب وهو يخبرنا بأن كلانا معافىً وقادر على الإنجاب لكننا معاً لن نرزق بطفل، هددني والدها بالسلاح، وهددتني والدتي بأن تغضب علي ..
استسلمت لرغبة أهلها بحجة أننا أخطأنا منذ البداية عندما عارضنا حكم المجتمع! تباً للمجتمع قلت لها وأنا أصرخ في الشارع عند باب المحكمة، رآني زملائي يومها وأنا أفقد عقلي وكادت سيارة أن تصدمني، ضربت يدي في عرض الحائط، وسقطت مني كلمات جارحة سهواً عليها .. فأخذت تبكي، أردت أن أضمها .. رحلت مسرعةً، لقد انكسر قلبها!
ايييه .. لقد مر على هذا الكلام سنين وماتزال في كل عيد ميلاد لك تحتفل بذات الملامح الكئيبة والذكريات الأليمة. لأنها من كانت تجيد الاحتفالات وحدها هي من كانت تغريك .. كما كانت تغريني رائحة القهوة في الصباح مع صوت فيروز.. كانت تغريني أرصفة الطرقات المبللة بالمطر الخريفي، وكان يغريني الكتاب بشدة .. عنواين الكتب المشردة على الأرصفة، النائمة على أسوار الحدائق، وتلك الكتب المتعجرفة ذات الأغلفة القاسية التي كانت تتكئ على رفوف المكتبات .. ورؤيتك سارحة .. ياه كم كانت تغريني حتى أسرق من شفتيك قبلة .. وبعدها أذوب!
اليوم لم يعد يغريني شيء من هذه الحياة سوى عنواين الكتب، والمحاكمات التافهة .. وزيارات الخميس العائلية والأفلام العالمية ذات النهايات البائسة .. والأخبار السياسية الكاذبة، وكوب الشاي عند الشاطئ والسجائر التي ستقتلني ذات يوم، أو بالأحرى ستكون الحجة التي سأخبأ خلفها انكساراتي ..
بعد عام واحد تزوجت من جارهم الصيدلاني ذو الملامح الجامدة، أنجبت منه فتاتين تشباهني .. على ما أعتقد! كنت في كل مرة ألتقيها بعرض مسرحي أو أمسية شعرية، ألمح في عينها انكسار السنين، عتباً لا تتلوه الكلمات، كانت تصافحني ببرودة وحدي من كنت أشعر بحرارتها ..
أتت إلي في يوم من الأيام منهارة، قالت لي بأنها تعاني من نوبات ذعر، وأنها غير سعيدة في حياتها رغم أن شعور الأمومة يملؤها بكل المشاعر .. لكن .. لكنها تفتقدني، أرادتني أن .. أن أضاجعها .. لكن لا .. رغم أنها كانت تغريني، لكنني لم أستطع أن أكون الرجل الذي ستخون زوجها معه ..
همست لي ذات أمسية لقد تمنيت لو كنت الرجل الذي خنت هذا البائس معه، لكنني لم أعد أستطيع سوى أن أسير في هذا الدرب المقرف ..
تركتها وتركت الشعر والمسرح، بكيت لأيام على مصيرها البائس، صليت لها كي تتوب في المساجد والكنائس .. بقيت في قلبي وصمة عار .. شعرت بالذنب اتجاهها، لقد كنت مفتاح مصيرها البائس .. ثم في عيد ميلادي الخامس والأربعين سقطت في المحكمة ونقلوني إلى المستشفى .. وصلتني وماتزال تصلني على الدوام رسائل وزهور منها .. لكن منذ ذلك اليوم البائس كسرت هذه المرأة المرآة التي كنت أرى نفسي بها .. فلم يعد يغريني شيء ..
حطمت البيانو في لحظة غضب، وأحرقت النوتات بكل حقد، تشاجرت مع والدي.. سافرت حول العالم في رحلة دامت سبعة أشهر .. هاتفها .. خنتها في ذاكرتي مع ممثلة أحبها.. التقيتها .. قبلتها .. أبعدتها .. هجرتني .. كرهتني .. بكت على صدري، قالت لي تعال لنهرب .. قلت لها لقد تأخرتِ كثيراً، فهذه النار أصبحت رماداً .. بكينا معاً على عربة الفول، في المساء في مقهى الزاوية، في فجر اليوم الذي هاجرت فيه إلى كندا عند إشارة المرور .. كل هذا كان احتضاري .. سنوات من العذاب .. ياه .. لو أنني استطيع أن أصف لك هذا العذاب .. عذاب يغريك كي تعيشه .. لأنه لم يعد هناك ما يغريك سواه ..