في ليلة صافية من ليالي نيسان ذهبت "هالة " إلى أمسية شعرية، وكان يلي تلك الأمسية حفلة موسيقية، ابتدأت تلك الحفلة بعازف الكمان، ويُدعى "مراد" وقد تميز هذا العازف برقي فنه وإحساسه الرفيع كما كان مشهوراً بوسامته ولون الليل في عينيه، تناولت تلك الحفلة العديد من الفنون التي كانت منتشرة في العصر الثامن عشر، وكان الهدف الأساسي منها إثراء الموسيقى الكلاسيكية والحفاظ عليها.
في تلك اللحظة التي عزف بها "مراد" نسيت "هالة" نافذة قلبها مفتوحة، ومجرد ما نظرت إلى عينيه تسللت موجات هادئة إليها، كان ذاك الإحساس أرقى من أن يوصف، فهو خليط بين العبودية والحرية.
عند انتهاء الحفلة اقتربت منه لتبدي إعجابها بلحنه، نظر إليها وابتسم ابتسامة ناعمة، ثم شعر بسراج يخترق قلبه، هل هو الإعجاب من أول نظرة!.
بعد عام كامل من المشاعر الصادقة بينهم جاء عام الحرب وكان لا بد لعازف الكمان أن يتجهز للذهاب إلى الجيش كي يقوم بواجب وطنه، هذا هو الجيل المنكوب.
كان الوداع بينهم وداع هادئ لا مرئي، كأنهم يتفننان في أداء طقوس الكتمان كما كان ذلك اليوم سراجه مطفي لا ينعم بأي حظ ، لأن الحياة القادمة لهم لم تكن مضمونة.
مرت شهور طويلة وهي تنتظر خبراً عنه، كان قلبها يفيض اشتياقاً وعتاباً، لماذا لم يرد على رسائلها، مع أنه لم يكن من المفقودين، ولا من الموتى لماذا تجاهلها، أو ربما هكذا كانت تظن.
مدة الوقت كانت كافية لتقضي على أي لحظة سعيدة، فقد عاشت أوقات عصيبة تنبعث منها مرارة الفقدان.
بعد عام كامل من المرارة والرسائل المهملة وقعت عينيها على نصائح للكاتبة "أحلام مستغانمي" تتعلق بصمت الحبيب، تقول" أمام أول رسالة تبعثينها ولا تتلقين عليها جوابا توقفي نهائيا عن المراسلة، إن الانقطاع التام أخف على العاشق من رسائل يقابلها الصمت، الصمت مساحة للتأويلات التي قد تذهب بك في كل الاتجاهات، و ستخطئين حتما في تفسير صمت الطرف الآخر فبعض الصمت عتاب أو إهانة، و آخر حب، و ثالث حب مضاد، لكن أياً كان فهو يفسد ويغير صورة الآخر في قلبك وطريقة إحساسك به، كلما طال الصمت تشوه الحبيب، وأصبح كائنا غريبا عنك، وناب عن صوته مرارة تقتل كل ما كان حلواً بينكما، وأياً كانت الرسالة التي كان يريد إيصالها لك في البدء بصمته فلن تصلك إلا مشوهة" بعد قراءتها لتلك الكلمات قررت أن تفتح قلبها لضوء جديد، وأن تغلق أبواب الماضي المرير.
ولكن كان في قلبها شيء يشبه الأزلية منفي في ثنايا روحها، منهك العواطف، ماضيها ما زال يؤلمها، حاولت محيه بجميع المقاييس، وقد فشلت في بداية الأمر ثم أعادت الكرة لأنها مجبرة على محيه.
كان عليها أن تتحرر من إحساسها لتستعيد كرامتها، وتخلع زي الشغف لتتفادى المضاعفات في حياتها، ولتنفذ هذه الأمور بعثت لمراد رسالة أخيرة:
إلى من تصله رسائلي عذراً أظن أن هذه الرسائل وصلتك بالخطأ يا سيدي فهي ليست لك نعم ..... ليست لك... إنها مسودة من مسرحيات شكسبير أو ربما مسودة الجزء الثاني من رواية البؤساء ... أو ربما كانت مقتطفات من سمفونية فرنسية ... أي كان لا يهم التفاصيل، المهم أن هذه الرسائل ليست لك ولا تعتقد ما جاء فيها يخصك.
بقلم سهام السايح
.
-
سهام السايحمؤلفة كتاب كأنه سديم وكتاب عمر مؤجل