الزنزانة رقم 24 - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الزنزانة رقم 24

  نشر في 25 مارس 2016 .

ليس مُهِمّا أن تعرفوا سبب دخولي السجن، إن الأهم هو ماذا حدث لي داخله، إليكم القصة: في الزنزانة رقم 24، التي يعود سبب تسميتها بهذا الاسم إلى عدد المساجين الذين لقوا حتفهم فيها، إذ أنهم لم يعمروا طويلا ما عدا شخص واحد يناهز عمره الثمانين سنة الآن. زنزانة مظلمة بنافذتين تطلان على ساحة السجن التي تضم حديقة صغيرة وملعبا لكرة السلة وبعض الكراسي الخشبية. خيوط العناكب على امتداد السقف والزوايا، وفي السريرين اللذين لم ينم عليهما أحد منذ مدة طويلة. هذا ما حكاه لي مساعد الشرطي قبل أن ينهوا التحقيق معي.

لم أتصل بسيارة الإسعاف، لأن الحادثة كانت بسيطة؛ سيارة صدمت مؤخرة سيارة أخرى، والنتيجة اعوجاج في الهيكل من الخلف، وتلف في المصابيح الخلفية أيضا. لابد أن المخطئ سيعوّض الآخر نقدا وانتهى الأمر. نزل رجل بلحية سوداء طويلة وكثة من السيارة الأولى (المعطوبة)، تَفَلَ، ولعن الساعة التي أصبحت رخصة السياقة تمنح لأي كان، ثم توجه صوب الرجل الثاني مشيرا إليه بسبابته كي ينزل:

_ يوم جميل أليس كذلك؟!

_ آسف، لم أقصد ذلك، كنت على عجلة من أمري، و...

لم أسمع بقية الحديث الذي دار بينهما بسبب صوت سيارة الإسعاف المزعج. سيارة الإسعاف وسيارة الشرطة دفعة واحدة! أنا لم أتصل بأي منهما. بعد مدة لم تتعد خمس دقائقَ، دفع الرجل الثاني للأول تعويضا على تلك الخسائر. تساءل الشرطي ورجل الإسعاف دفعة واحدة:

_ لماذا اتصلتما بنا إذا؟!

أجاب الرجلان دفعة واحدة أيضا:

_ لا، لم نتصل بأحد...

تناول الشرطي هاتفه واتصل بآخر رقم يظهر في لائحة المكالمات الواردة، فَرَنَّ هاتفي. اِلتفت إليَّ ذلك الحشد الواسع من الناس دفعة واحدة، ثم توجه الشرطي نحوي وقيَّد يديَّ خلف ظهري وأخذني إلى السجن.

_ من أنت؟ لصالح من تشتغل؟ لمَ قمت بهذا الإلهاء للشرطة؟ ما الصفقة التي تمت في غضون هذا الوقت؟ تكلَّم وإلاّ...

_ أنا مواطن تافه، أحيا في هذه المدينة الملعونة، لم أتصل بكم أقسم، ولم تتم أية صفقة. ثم ما أدراني أنا بالصفقات سيدي الشرطي؟!

_ وكيف تفسّر وجود رقم هاتفك في لائحة المكالمات التي وصلتني هذا الصباح؟!

_ للأسف، أنا أيضا منبهر مما وقع، لكني لم أتصل بك سيدي صدقني.

_ يبدو أنك سترهقنا في التحقيق، لا تخف، لن تكون هناك وسائل تعذيب، لأننا في القرن الواحد والعشرين. ولكن، ستظل في ضيافتنا إلى أن تعود إليك ذاكرتك وتحب إطلاعنا على الحقيقة اتفقنا؟ مرحبا بك في عالم الظلام.

نادى الشرطي مساعدَه، وأمره بأخذي إلى زنزانة الضيوف؛ الزنزانة رقم 24. وبينما كنا نسير إلى الزنزانة مرَّت بخلدي تلك الزنازن المروِّعة التي شاهدتها في الأفلام، وطرق الترهيب المعتمدة في تلك السجون التي لا حقوق للسجناء فيها... وقبل أن تسقط دمعتي الأولى على أرض السجن قلت لمساعد الشرطي الذي كان منهمكا في فتح باب الزنزانة الصَّدِئ:

_ أنا بريء، صدِّقني أنا لم أقترف ما يتهمونني به.

_ ومن قال لك إنهم يتهمونك؟!

_ ولكن، لمَ أنا هنا؟!

_ اِسأل نفسك.

_ ولكن، كيف؟ لم أفهم قصدك...

_ كفى ضجيجا، هيا ادخل زنزانتك.

تلمَّست طريقي في الزنزانة المظلمة لأخلص إلى زاوية أجلس فيها، لكنها كانت بلا نهاية، وبلا جدران. لا العجوزَ موجودٌ، ولا السريرين. بقيت أمشي، وأمشي، وأمشي إلى أن تعِبتُ فَنِمْتُ. الضوء الخافت الذي يلوح بعيداً يجذبني إليه، إنه كضوء شمعة في صحراء قاحلة. لم أصل إلى ذلك الضوء رغم مكوثي في الزنزانة أزيد من... لا أتذكر كم لبثت، إنها لا زمن فيها، لا أحد ليطلعك على الوقت. مذ تركني مساعد الشرطي لم تعد لي صلة بالبشر. عندما أتعب أنام، وعندما أستيقظ أواصل السير نحو الضوء الخافت البعيد.

ذاك الصباحُ المشؤومُ _تبا للصباحات التي تصبح نفسك منقبضة منها_، استيقظت مهموماً، وكأنني سأخسر شيئا ثمينا. تأكدت من وجود مفاتيح المنزل في جيب معطفي، وتأكدت من وجود أوراق آخر امتحان لتلاميذ الثالثة إعدادي الذين أدرّسهم اللغة العربية، كما تأكدت من أنني لا أحمل حاسوبي أيضا. ولكن، أنا عادة أترك هاتفي في المنزل، أطفئه ولا آخذه معي. كل شيء أتذكره بوضوح ما عدا الهاتف. هل تركته أم حملته معي؟ ثم إنني كنت أعيش وحدي في المنزل؛ مما يعني أنه لا أحد ليذكرني بما حدث في ذاك الصباح المشؤوم.

مهلا، أنا لم أر الهاتف الذي رنَّ في جيب معطفي، لم أتحسسه حتى. لحظة لحظة، إنَّ الرَّنة التي سمعتها لم تكن رنة هاتفي. نعم، هذا صحيح، سأخبر الشرطي بذلك، وسيطلق سراحي. نعم، هذه هي النقطة الوحيدة التي من خلالها سأنجو من هذه الورطة.

هذه حلَلْناها، ولكن كيف سنحل مشكل العودة إلى باب الزنزانة؟ وكيف لي أن أعلم بأن ذلك الشرطي لم يتغيَّر من منصبه؟ وما أدراني أن ما قضيته هنا ليس زمنا يسيرا؟ ثم كيف أفكّ مسألة أني لم آكل ولم أشرب ولم أقض حاجتي منذ ولجت هذه الزنزانة؟!

لابد أن أصل إلى الضوء مهما كلفني الأمر. عليّ أن أختار الآن وبلا تردد؛ إما المواصلة نحو الضوء _الذي قد يكون خلاصا من هذا الوهم_، وإما العودة للبحث عن باب الزنزانة؛ وهذا أمر مشكوك في صحته، ربما لن أصله أبدا هو الآخر. أفضل أن أسير صوب الضوء، ثم إنني أعلم أن رمزية الضوء دوما تكون هي الخلاص من الظلمة والهلاك، ثم أليس هذا ما أدرِّسه أو كنت أدرِّسه لتلاميذي؟

لا! مستحيل! لا يمكن أن أصدّق هذه الفكرة. لا! مستحيل! هذا هراء. رغم أنني أؤمن بذلك، ولكن ليس على أرض الواقع، وليس معي أنا تحديدا! لا! مستحيل! لا يمكن أن يكون كل هذا يحدث لشخصية من شخصيات قصصي. لا يمكن أن أكون أنا الضحية هذه المرة، مستحيل يا عالم. تبا للحظ الذي يعاكسني. الضوء هو الخلاص، علي أن أجري إليه قبل أن أموت، أو قبل ظهور العجوز.

Gmail: iraoui90@gmail.com


  • 2

   نشر في 25 مارس 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا