بمناسبة تاريخ اليوم الــ 20 من شهر أغسطس 2016..

أتذكر في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، كيف أني سقطت الى حفرة من حفر الطيش التي تصنعها في عقلك وحياتك سنوات مرحلة المراهقة، حينها كنت سيئاً للغاية وقبيحاً للغاية، وعلى الرغم من الوضاعة التي أكسبني إياها طيشي، كنت أحلم بالمستقبل، ولازالت تلك الرؤيا الجميلة التي جمعتني بــ (جان جاك روسو) ومنحتني الفرصة لأن ألقي خطابي السياسي الأول أمامه، تتردد في أرجاء ذهني ولا تغيب عن ذاكرتي أياً من تفاصيلها.. كنت طائشا وأحلم بأن أكون مهندساً وكاتباً ورجل سياسة في وقت واحد..

كل ما كان يؤلمني من سقوطي آنذاك ليس إلا كوني توقفت عن عادة القراءة..!!

لم تمضي فترة طويلة حتى أرسل الله ملاك العذاب لمعاقبتي على شروري، وسرعان ما أرسلني الملاك بدوره الى أحد معسكرات الجيش في الشمال الغربي.

كانت تجربتي هناك لعينة وكان ألمي ذاك لازال يحطم نوافذ الروح حتى لا أكاد اتنفس.. لم أكن أعلم أن في الجحيم مكتبة حبلى بالنعيم، كانت تخص رجلاً عظيماً هو (الرئيس الراحل ابراهيم الحمدي).. وحتى اليوم مازال يتردد صوته حر بأعماقي قائلاً لي: هذا ما أعددته لك..؟!!

عندما اكتشفت الأمر وتأكدت من صحته، أشتعل قوس قزح في رأسي وروحي وفي كل شيء من حولي، وركضت في ظهيرة يوم حار وخبيث من أيام أغسطس، وبالتحديد في ظهيرة الــ 20 من أغسطس 1997، ركضت فوق الرمال الملتهبة صوب المكتبة.. صوب الكنز.. وهناك ارتميت في حضن أول رف قابلته من رفوف المكتبة الرئاسية المدفونة، التي صارت ميراثي..

وبدأت أشرب وأشرب وأشرب وأروي عطش السنين:

تاريخ الكنيسة والامبراطورية لــ (لوسير)، ثم خطابات بوسيه حول التاريخ العالمي والرجال المشهورون لــ (بلوتارك)، تاريخ فينيسيا لــ (ناني)، وتحولات أوفيد لـــ (ابرويير)، وكتاب العوامل وكتاب حوارات الموتى لـــ (فونتونل)، ثم بعض الأجزاء لــ (موليير)..

وعندما تنتهي من قراءة هؤلاء ويتملكك شغف القراءة لــ (بلوتارك)، ستجد نفسك واقفاً على حافة الكون، وقادراً على التقدم في الحياة بدبلوماسية رصينة دون أن تسقط في فراغ الهاوية، لأن المعرفة تجعلك خفيفاً مثل الريشة، وكل نسمة هواء تأتي من العمق السحيق، تدفعك الى الأعلى والى الأمام.. وكأنك في معراج الصعود الى ما هو أعلى من أي قمة في هذا العالم.. أقصد ذاك الذي نسميه (السمو)..

وهناك شربت كثيراً وثملت وصحوت أكثر وأكثر.. وتفتقت روحي العنيدة عندما وقعت على كنز معتق آخر من الروايات، التي بوسعها أن تعلمك فنون السياسة وكل معارفها بل وكافة فلسفات الحياة وطرائقها.. كما حصل معي بعد قراءة روايات (أجيزيلا) و(بريتو) وأيضاً (أريستيد) ثم (أوروندات) و(أرتامن) و(جوبا).. ومن لا يهم ذكرهم بعد هؤلاء..!!

باختصار.. حب القراءة يمنحك مصادفات رائعة تسهم في جعلك كل يوم أروع مما قبل..

...

المعجزة في هذا الذي حصل معي، هو أن هذه المصادفة الغريبة ألقت بي في أدفئ حضن من أحضان وثيقة تاريخ الانسانية وهو عصر التنوير، فكل تلك الكتب كانت تنتمي فقط وفقط فقط لعصر التنوير.. ولكم أن تتخيلوا كيف أني فهمت الأمر؟!

..

** هذا ما حصل معي ذات يوم في 20 أغسطس 1997..!!