تمهيد؛
”من عجائب هذا الزّمان أن الجميع ينتقد ظاهرة رمي الأوساخ العشوائي، وحين ينوي أحدهم مغادرة المكان فإنّه يغادره تاركا وراءه فضلاته“. همس صاحب النظرات الثّاقبة من وراء نظّاراته السوداء. واستطرد يقول: ”ألا يستحي هؤلاء النّسوة الزّائرات؟“.
كان قد تحدّث البارحة عن بعض المجاهدين ومن بينهم والده، وأنّ أباه لم يكن انتهازيا وأنّه كان يقول له دائما: ”إذا أردت أن تحصل على شيء في هذه الجزائر فاحصل عليه بذراعك وعرق جبينك“. ويبدو أن صاحبي هذا قد استوعب معنى ومفهوم الرّسالة. ولم يعد قادرا على تفهّم المنتقدين. لكنّه حين تعلّق الأمر بالمستشفى فإنّه لم يتردّد في إلقاء جام غضبه على المسؤولين وكل المرضى والممرّضات.
لم يبدِ جليسي أيّ تفاؤل بشأن الوضع في البلاد، لأن البداية لم تكن على أسس ومتن صحيحة بالنسبة لصاحبنا صاحب النّظر الثّاقب، فهل نضم أصواتنا إلى أولئك الذين ينادون بتغيير النّظام؟ ولنضرب مثلا بهذا المستشفى الذي نرقد فيه، وهو مستشفى عمومي بمعنى أن كل شيء فيه بالمجّان، وبإمكان أيّ مواطن مريض توجيهه النّقد اللاّذع للطّاقم ومن يعمل فيه دون تحفّظ.
لقد قاموا بممارسة أنواع الضّغوط على المدير السّابق وارغموه على تقديم الاستقالة، وغادر المسكين منصبه مكرها، لأنّه كان يقوم بواجبه، وكان قد استطاع أن يجلب للمستشفى القديم عشرات الأخصّائيين، ويفرض النّظام على الجميع. وهذا ما لم يرضِ بعض المتخاذلين الذين ألفوا التسيّب والفوضى داخل المستشفى، وكذلك المتآمرين المنتفعين من القطاع الخاص. وهذا ما يحدث في باقي مرافق القطاع العمومي والمؤسّسات التّابعة له.
الهدف بات واضحا، ولم يعد يخفى على أحد أن هناك من يحرص على غلق المستشفيات العمومية تشجيعا للقطاع الخاص. ليتسبّبوا في مآسي للطّبقة الضّعيفة المعدومة التي ليس في مقدورها تسديد ثمن ليلة في العيّادات الخاصّة.
الأمور تزداد سوءا في القطاعات العموميّة، وبالأخص المستشفيات. على الرّغم من السيّاسة ”الشعبويّة“ التي تنتهجها السلطة. وفي المقابل تعاني المرافق العمومية والمستشفيات على رأسها من نقص فادح، ومؤامرات من الدّاخل والخارج. وأثّر ذلك سلبا على نوعية الخدمات.
غياب الصّرامة والانضباط اللاّزمين في القطاع العمومي مؤامرة، إهمال مكتسبات الشّعب جريمة، عدم تقديم الدّعم لها خيّانة. هذا ما عرفته الجزائر خلال ما يسمّى بالعشرية السوداء، التي تم فيها تخريب المرافق والمصانع والمنشآت العمومية وإتلافها خدمة لأغراض وأهداف ومصالح شخصية.
—------
صحوت على نزيف مريع، استمرّ النّزيف اللّعين ولم يتوقّف خلال ما يربو عن أسبوع. خفقان ودوار وشبه إغماء… ذبحة ووخز في الصدر… والموت يحوم من خلفي ومن حولي، ومع كل حركة و خطوة أخطوها. أصارع خُطى درجات السلّم كي أصل إلى الغرفة، وأفقد وعيي فلم أعد أشعر بشيء في آخر المطاف.
ندهتُ على ابني ناديتُه بأعلى ما تبقّى لي من صوت، نهض من مكانه مسرعا ولم يتردّد، شعرتُ بحركاته وهو يرتدي هندامه. لقد أدرك الولد فضاعة ما ينتظرنا في هذا اليوم.
كنتُ قد أخذتُ في الحسبان كل شيء قبل هذا، ورتّبتُ كل شيء لهذا الرّحيل؛ بدءا بالقميص وانتهاء بورقة ”الكريدي“.
اخترتُ المشي على أخذ سيارة أجرة، حفاظا على ما تبقّى من نقود في الجيب.
ثم في منتصف الطّريق.. يعاودني الألم؛ حرقة تشقّ الصّدر. لم يعد بإمكاني مواصلة المشوار. ركبنا على عجل نطلب العيادة.
لحظات توقّفت السيّارة جنب العيادة، أخرجتُ من جيبي ورقة النقود الوحيدة وأعطيتها إلى الولد، والحوار الذي دار بين السّائق و الولد حول ”الفكّة“ أو الصرف لم ينقطع. لكنّه انتهى بالولوج إلى العيادة.
قابلنا العون مجهّم الوجه في الردهة يستقصي، ثم ما لبث أن دلّنا على مصلحة الاستعجالات. استلقيتُ فوق السّرير، وذهب الولد يحضر الممرّضة. جاءت الممرّضة، ومن بعدها الطّبيبة تحمل دفترا وقلما. أخذتْ تسأل وأنا أجيب، وطلبتْ من الممرّضة القيام بالفحوصات اللاّزمة ثم توجّهت إلى سرير آخر . الفوضى تعمّ القاعّة، وحالة من التسيّب والاكتظاظ.
عادت الممرضة من جديد تحمل المصل معها وقامت بتعليقه على مشجب جنب السرير. تعوّدتُ كيف أسحب كمّي إلى أعلى، وأمدّ ذراعي على طولها، وأسلّم أمري للأقدار تغرز إبرها اللّعينة في الجلد لتحيي ألم السنين في صدري… منذ فتحتُ عينيّ لم أر النّور في هذه الدّنيا اللّعينة.
مراهقة تناولت جرعة زائدة من الأدوية، جاؤوا بها وألقوا بها في السرير. وحاولوا إنعاشها بكل السبل، لكنّهم لم يفلحوا في البداية. وجاءت أمّها على عجل وهي في حيرة من أمرها، ثم أخوها من بعد ذلك. حالة من الاستنفار تهزّ القاعة.
جاءوا بشخص آخر يحملونه على الأكتاف، ورجله اليمنى معلّقة بين يديه. يروي قصّته مع الحادث؛ يزعم أنّه سقط من درّاجته بينما هو في طريقه إلى العمل.. يبدو من خلال الهمز واللمز والحديث الذي دار بينه وبين بعض الحضور أنّه يخفي أمرا ما، كأن يكون قد تعرّض لحادث مثلا. لكنّه لايريد الإفصاح عنه والوشاية بصاحب الشّاحنة الذي ذكره في حديثه، لأن ثمّة أشياء ولسبب من الأسباب يريد إخفاءها.
عادت الممرّضة تطلب من ابني أن يأخذني إلى قاعة الأشعّة، أين وجدتُ ممرّضة أخرى في انتظاري. ولجتُ إلى القاعة دون تردّد، تقدّمتُ إلى الجهاز الفولاذي، سحبتُ الثّوب إلى أعلى، تنهّدتُ جيّدا، أخذتُ نفسا طويلا، ثم قطعتُ النّفس كما أمرتني.
رجعتُ إلى مكاني الأوّل واستلقيتُ فوق السّرير، وكلام عن تحويلي إلى المستشفى تلوكه الألسنة. لحظات أو دقائق معدودات، تم خلالها ترتيب الأمور بصفة رسميّة. ووجدتني فوق كرسي متحرّك متوجّها إلى سيارة الإسعاف.
لم يسبق لي أن جلستُ فوق كرسي مثبّت على طرف سيارة الإسعاف؛ أمر غير مألوف؟
تمّ إحضار الشّخص صاحب الدرّاجة، ودفعوا به داخل السيّارة وهو مستلقٍ على ظهره. لم أكن أتوقّع أن ينتهي بالأمر بي هكذا؛ جالسا في وضعية غير مريحة والدّماء تسيل. قطع عشرات الكيلومترات وأنا أنزف وأتألّم؟ لكن يبدو أنّه لا يوجد حلاّ ناجعا في غياب وسيلة أخرى.
خلتُ أن الأمور لن تستغرق وقتا كبيرا، لكن صاحب الدرّاجة لفت انتباه الممرّضة إلى عدم تضميد ساقه مما قد يعرّضها إلى عطب أثناء الرّحلة. فتدافعت الممرّضتان نحو الخارج، وجاء ممرّض آخر يحمل معه جبسا ولفائف ومقصّا، وشرع في تقطيع سرواله. واضطررتُ أن أغيّر الكرسي لضيق المكان، وكان الجو باردا والهواء ينفذ من باب سيّارة الإسعاف المفتوح على مصراعيه، وأنا بين برودة الجو وحرارة الألم أتابع ”الكوميديا“.
بعد الانتهاء من تضميد ساق الرّجل، تنبّه الممرّض إلى اختفاء المقص، وراح يلقي باللّوم على زميلته، ويطلب منها العثور عليه بكل السبل. واستغرق الأمر وقتا طويلا قبل أن تنطلق سيارة الإسعاف، ومعها إشارة الإنذار تشقّ الأسماع في طريقها إلى المستشفى.
في منتصف الطريق، فجأة، استأذن صاحب القدم المكسورة يريد إخراج ما في جوفه. ولفت انتباه الممرّضة وجود دم بمادّة القيء المستفرغة، فصرختْ تطلب الطبيبة. وكانت هذه الأخيرة تجلس في الأمام رفقة السّائق. وتوقّفت سيارة الإسعاف، وفُتح بابها الخلفي، وصفعني الهواء البارد من جديد، وكان ذلك بداية لمعاناة طويلة.
يتبع..
------
ر. م (فوزي)
الجزائر