“تلك العيون التي أعرفها أكثر من نفسي، حرام عليها أن تذرف الدموع”. قلت لها وأنا أمسح بيدي الدمعة التي سالت على خدها.
سأرحل حتى لا آخذك معي إلى عالم سيخذلك بكل بساطة، قدرنا ألا نكون سوية، اعتذر إن كنت قد جئت في زمن لا رحمة فيه، صدقيني بأن النقمة التي كنت أشعر فيها البارحة عليك زالت عندما قلبت كل شيء في ذاكرتي، وجدت بأنك لا تستحقين مصيري البائس، لقد أعطاك الله فرصة فاستغليها، ورجلاً يهتم حقاً لك فلا تخذليه.
“إلى أين ستذهب؟”
“سأعود إلى حيث لم يكن من المفترض أن أرحل، مكاني هناك .. ربما ليس على أي جبهة من الجبهات، لكنني هناك تركت كل شيء خلفي، وأتيت ..”
“لم أخبرك بأني تزوجت لأنني أردت أن أعطيك الفرصة والدافع حتى تصل إلى هنا، لم يعد هناك حياة لتعود إليها .. خليل أنا أحبك، وأعلم تماماً كم أنني كنت قاسية، وكم أنني خذلتك، لكن اسمعني فقط لمرة واحدة .. سأؤمن لك كل شيء لتبدأ هنا من جديد”.
“صفقتك خاسرة يا جوليا، فأنا لم يكن لي هدف من قدومي سوى أن أكون معك. ووجودنا في مكان واحد سيجعل الحمل علي أثقل، سيهدني كل يوم أكثر مما سيبنيني، يكفيني إني سأتركك في بلد آمن بين يدين أمينتين”.
ً صدقني إن فعلتها ورحلت فإنني لن أسامح نفسي” .. صاحت بي وكنت قد اقتربت من الباب لأفتحه خارجاً، تراجعت قليلاً قبل أن أسير، غير مدركاً إذا ما توقفت أين ستحملني خطواتي، توجهت إليها وحضنتها بشدة ثم قبلتها على جبينها ومضيت مسرعاً، ليكون أخر ما يمر على سمعي صوت إغلاق الباب، لا صوت انهيار دموعها.
لطالما حلمت في أن أسافر إلى باريس، أن أمشي في شوارعها، والتقط فيها الصور، أن أحمل من كل مكان أمر فيه ذكرى، أعود بها إلى بلادي لأخبر الجميع بأنني كنت ذات يوم هناك، استنشق العطر، أتنفس القهوة بين ذراعي المرأة التي جاهدت نفسي على حبها، باريس لم تكن مجرد مدينة بالنسبة لي، كانت حلماً، كانت عاصمة العشق، تخيلت يوماً أننا سنكون سوية نعلق قفل حبنا على ذلك الجسر الذي لم أنخيل يوماً سوى أن أراه في الأفلام، وعندما أتيتك .. كأنما جئت بآخر طعنة لقلبي، وكما قال درويش ذات يوم لم يعد في القلب مكان لرصاصة جديدة. لهذا كان علي أن أمضي بخيبتي، عائداً إلى غربة الوطن، لقد فقدت الأمل من كل شيء، وربما جل ما كنت أفعله كان الانتحار بطريقة خاصة.
كيف لكل ذلك أن ينتهي بهذه البساطة، كيف لك أن تسير في طريق أنت تدرك حقاً ماهية نهايته، لكنك رغم ذلك اتخذت قرارك في أن تكتب النهاية التي تريد، عليك أن تعيش لتفي بوعدك، لتكتب لهم وعنهم، لتخبر العالم عن سر سقوط تلك المدينة الشامخة، دمشق لا يمكن لها أن تسقط، كذلك بغداد رغم أنهم أقنعونا بأنها فعلت. عليك أن تفعل المستحيل حتى لا يمحى أثرهم، حتى لا يكونوا مجرد ضحايا حرب، عليك أن تصارع خذلانك، أن تصمد أمام وقوعك، كن كدمشق واصمد، لكن ذلك الصراع لم ينتهي هناك يوماً، بل سافر معي، شق طريقه نحو العودة بكل تجبر وقسوة.
كانت ريتا تجلس قبالتي تحاول رسم ملامحي الغارقة في القراءة، أغلقت الكتاب ووضعته بجانبي، سألتها إن كانت تريد مشاركتي في تناول القهوة، فطلبت مني أن أبقى ثابتة ريثما تنتهي من تثبيت بعض الملامح التي كانت تراها حقيقة لتمثلني.- لم أرى يوماً حزناً في عينيك كالذي رأيته اليوم؟!
- لقد اقتربت من النهاية ..
- لقد كان هذا من الماضي يا جمان، خليل لم يكتب كي يشفق الناس عليه، خليل كتب كي لا ينسى العالم قصتنا، عليك أن تنتهي من الكتاب حتى تخبريني ماذا حدث في النهاية، لأنني أبدو متشوقة أكثر منك ..
- خليل يا ريتا لم يكتب للعالم، بل كتب لها ..
- جوليا؟
- أجل، استطيع أن أحس به في كلمة، بأنه كان يتوجه إليها رغم أنه سينكر ذلك، حتى لو بينه وبين نفسه، خليل هو قريني الرجل، الذي عاش حياتي رغم أنه لم يقدر لنا يوماً أن نلتقي!
خليل يا سعود كان أنا، وجوليا كانت أنت، حب من وطن واحد، وطن كان يعيش ذات يوم بسلام، حتى أتت الحرب فقضت على أحلامه، تلك الرصاصات التي لم تقتلنا قتلت كل شيء فينا، نحن أحياء لكننا لسنا أبداً على قيد الحياة، نحن مجرد أسماء سأكتب عنها كي يحفظها التاريخ، ليس كي يحفظ جمان وسعود، بل كي يحفظ كل قصة تشبه قصتنا، يوماً ما سيقرأ أحدهم عنك وعني وسيشعر بذات الحزن، كما لو أنه أنا ويقرأ مذكرات حرب.
نشر في 12 شتنبر
2017 .
التعليقات
لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... ! تابعنا على الفيسبوك
مقالات شيقة ننصح بقراءتها !
مقالات مرتبطة بنفس القسم
جلال الرويسي
منذ 2 شهر
جلال الرويسي
منذ 6 شهر
Mariam Alsayegh
منذ 9 شهر
إلهة الأبجدية والإبداع
عزيزتي .. عزيزي.. منبر كلاود.. منبر جديد ., يسعدني أن أنشر به ويسعدني متابعتكم لكل المقالات به.. كما دعمتموني دومًا ادعموا ها الموقع العربي المؤثر .."بينما يتأوهون.. يسرقون.. يجيدون الفوتوشوب.. هاهاهاوحدي.. سر نبضه .. بهجته عبر الأكوان.. العوالم.. العصوروحده .. عشقي فاكسين..سموم شيخوخة قلوبكم الكاذبة..بلحظاته
منصور
منذ 10 شهر
عبد الرقيب البكاري
منذ 1 سنة
الخلاص
الخلاصقصة قصيرةفي ليلة موحشة وفي إحدى القرى التي لا يكترث لمآسيها أحد وفي سنوات الحرب واليأس كان الليل يوشك أن يرحل بعد عناء طويل عندما سقط رأس الأم على صدر زوجها من التعب والإرهاق ، ثلاثة أيام بلياليها وهي تضع
منى لفرم
منذ 1 سنة
حسن غريب
منذ 1 سنة
وتوالت الذكريات
قصة قصيرة /وتوالت الذكريات بقلم:حسن غريب أحمدكاتب وناقد مصر__________________________________قالت له ذات يوم : ولدى لا تغادر .. أنت جسر البيت .. نظر إلى الأفواه الجائعة فى الخارج .. كانت حبات المطر ترسم شكلاً ما فوق النافذة .. المدفأة تصدر شخيراً مخيفاً
أشرف رضى
منذ 1 سنة
nessmanimer
منذ 2 سنة
soumia kartit
منذ 2 سنة
soumia kartit
منذ 2 سنة
آلاء غريب
منذ 2 سنة
Mais Soulias
منذ 2 سنة
د. يـمــان يوسف
منذ 2 سنة
Rim atassi
منذ 2 سنة
آلاء غريب
منذ 2 سنة