الوحدة ليست دخيلة علي، فلطالما وجدت ذاتي داخل همسها الخفيف.. داخل سكونها المرقع بثقل الأيام الخوالي، الأيام التي كرهت فيها كوني على قيد الحياة.. داخل لياليها الموحشة بغربة قد نسجتها بيدي أو ربما تكون غربة قسرية، فنحن في مجتمع إذا حقق أحدهما إحدى أمنياته - خاصة تلك التي يتقاتل عليها الجميع - فسوف يُنبذ مهما بد حجمها أو غرابتها، وأنا قد حققت هذه الأمنية، أنني ابتعدت.. قد نجحت بامتياز في كوني بغيضة ونذلة كما يقول إميل سيوران..
" لا يستطيع أحد أن يحرس عزلته إذا لم يعرف كيف يكون بغيضاً"
لديه حق، فمن الذي يستطيع النجاة من عوالم الانترنت الساحقة ليبني لنفسه منفى، إلا إذا كان قويا وبغيضا لدرجة أنه ليس هناك شيء قادر على كسره؟!
لكن الابتعاد قد شطرني لأجزاء، أصبحت هشة في مقابل تمسكي بالوحدة. أصبحت باردة في مقابل تشبثي بعقلية العجوز. أصبحت مملة لأنني فضلت الجمود على دخول السِرك، والأسراك هنا كثيرة! ونفسي بالكاد تدفعني لعيش اللحظة القادمة. فأي قوة تلك التي ستجعلني أحتمل كابوس الحضور داخل تلك العوالم مرة أخرى؟
أسمع صدى صوتي المتكسر وهو يلح، وهو يحاول بكل بلاهة أن يوصل إلي وسواسه، "ما ضرك لو أن تعودي مجددا؟ فكري في نفسك فأنتِ بحاجة إلى متابعين وقرّاء!" حقا يا صوتي؟ أتصدق نفسك أنت بعد أن اُلتهمت عصارة فكرك دون فائدة؟ بعد أن جعلوك تضيع فوق ضياعك حتى تشتت عليك معالم الطريق. ثم ألم تكن حاضراً وكلماتك كان يُلقى بها في غيبات التجاهل؟ أنت نكرة لكل الذين كنت تقابلهم بنصف حضور، بينما بداخلك كنت تظن أنك تفي بولائك لهم، هذا ليس بولاءٍ. هم يدركون خداعك جيداً، يعرفون أن وجهتك لطالما كانت بعيدة عنهم، كل النقاط التي كنت تختم بها فراغك اللا نهائي على مرأى الجميع تدرك ذلك جيداً، وأنت لم تعود بعد من متاهة الود الغائبة؟
أتعرف أن المتاهة ليست معقدة للدرجة، فأنت الذي رسمتها لهم، ومع ذلك قد ضلوا الطريق إليك، أتظن أنهم حاولوا أصلا؟ لا، لم يحاولوا. اسأل البحارة التائهون ماذا يتصرفون عندما يلمحون نقطة ضوء خافت في البعيد. أنت واضحا كوضوح الشمس والقمر، فقط عدم وجودك لمواساتهم على تحمل اللا شيء قد ألغى فراغك الذي كانوا يرونه حليفا لهم، فأنت غادرت دون التفات وتركتهم يواجهون مصيرا مبوء باللا معنى؟ ثم تريد أن تعود كأن مكانك لازال قائماً، لا.. أنت وفراغك الآن تتقلبان في الجحيم. ولا تعتمد كثيراً على نضج حروفك وعبثيتك المحدثة، فلست وحدك الذي يكتب بعمق!
المسألة ليست في تشظي الروح ولا الافتقاد إلى الصُحبة، ولا في السكون الذي يذكرني بوحدتي الجارفة في منتصف الليل، إنما في نفسي التي يبدو أنها تورطت بشكل أعمى داخل دوامات من الوحدة والنسيان، فكلاهما لم يعادان يأثران فيّ . أظن أنني لن أعود لهذا العالم بالطريقة القديمة التي ثبت فشلها، أعود فقط من خلال حروفي البسيطة وهذا يكفيني ويقنعني أيضاً مثله مثل رأي الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق (رحمه الله) عن الوحدة.
"الوحدة أمر خطير ومن السهل أن تتحول الى إدمان، عندما تدرك كم من السلام موجود هناك، حينها لن ترغب في التعامل مع الناس مجددًا."
-
Walaa Atallahكاتبة ومدونة مصرية.
التعليقات
كلماتكِ هي ذلك الحديث الذي يدور في أعماقنا المخفية لكل من فضل الوحدة والعزلة .. وهي محاولة لإسكات اي صوت داخلي ينادي بالعودة الى حياة مكدسة تضيع فيها حياتنا .
أبدعتِ