إن القرآن الكريم ليس كتاب دين و تشريع فحسب ،بل إنه كتاب تربية و توجيه و توعية للمسلمين على أن يعودوا إليه بالفهم و التطبيق ،فيصلح أمرهم أفرادا و جماعات ،شعوبا و حكومات ،و حتى الميدان السياسي الذي قد يبدو من اختصاصات القرن الواحد و العشرون ،و من مهارات أوروبا و الحضارة الغربية ،فان القرآن أعطاه حقه ووفاه نصيبه ، و من ثم فان المسلمين ليسوا بحاجة إلى المنظرين الإيديولوجيين الذين يضعون لهم القواعد و النظم ليصبحوا أقوياء سعداء ، و إنما هم في حاجة إلى الميدان العملي الذي يطبقون فيه النظريات التي جاء بها كتابهم ، فلسنا معشر المسلمين فقراء إلى ما يملى علينا قوة الإرادة و صدق العزيمة و ما ينمي فينا القوى العقلية ،لأنه لدينا بواعث كثيرة و كبيرة ، فالقرآن كاف لإيجاد الملكات الباعثة إلى المفاخر و كسر قيود الشقاء و الاندفاع إلى عمل تبعد به الهيئة الاجتماعية أو الجامعة العامة .
لقد جرى المسلمون منذ انتشار الإسلام بين الأمم على تفسير القرآن بالفارسية و البربرية و التركية لهذه الأمم التي تجهل اللغة العربية ففهموا أحكامه و أدركوا الإسلام حتى رسخ في قلوبهم ، فكانوا من أكبر العوامل في نشره ، أما ترجمة الإسلام على النحو الصحيح و على النسق الذي يزيد في الإيمان رفعة و قوة و تغلغلا في عمق الروح لهو التحدي الذي حرص عليه المسلمون عبر أزمنة عديدة لتجسيد مبدأ اللفظ المشترك للتوحيد الذي يشمل ركائز الإيمان و خصائصه التي استمدها المسلم من وحي القرآن و سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، و على ركيزة الإيمان هذه يخطو المجتمع المسلم خطوات الحياة اليوم في أطوار الحياة الإنسانية المتكونة من العمل للدنيا و الآخرة ، فان كان الإخلال بلوازم الحياة لا يورث إلا التقصير في واجبات الآخرة لكفى ضياعا و تفريطا .
أولا : الإيمان المتجدد شرط لنهوض الأمة من كبوتها
إن الأمة لن تنهض من كبوتها و لن تتغلب على عناصر التخلف فيها إلا إذا فهمت دينها بهذا الفهم الصحيح الذي يدعوها إلى الوسطية بين الأخذ من الدين و الدنيا معا ، و القرآن الكريم يدعونا إلى تجديد الإيمان مع كل ابتلاء و مع كل بلاء و مع كل مشروع حضاري يستلزم نزع غشاوة التخلف الذي أصاب أمتنا جراء الحروب و الفتن و الصراعات ، و لئن لم نفهم بعد أننا معنيون بمسألة التجديد الحضاري التي تستمد دعائمها من التجديد في الإيمان ، فسرد التاريخ يجلي المشكلة.
اذ أن الاستعمار الأوروبي جند كل القوى المادية و المعنوية التي يملكها لتثبيت احتلاله للأقطار الإسلامية ، وكان من الوسائل التي استخدمها ليصل إلى هذا الهدف من يطلق عليهم بالمبشرين و المستشرقين أولئك الذي يسعون لتنصير المسلمين و إخراجهم عن دينهم الحنيف و هم لتشويه القيم الإسلامية و التشكيك في التعاليم السامية التي جاء بها القرآن الكريم .
و كثيرا ما كان التركيز على تنفيذ الخطة في الأقطار الإسلامية المستعمرة التي يجد فيها هؤلاء مجال العمل واسعا و التأييد من السلطة الحاكمة قويا و التبشير أشد خطرا من الاستشراق ،لأن مجالات عمل الاستشراق محدودة إذ أن تأثيرهم ينحصر فيمن يستطيع الاطلاع على آرائهم و هم الطبقة المثقفة التي هي قليلة على كل حال ،أما التنصير فيتجه رأسا إلى الطبقة الفقيرة المحرومة من التعليم ليستغل فيها نقاط الضعف هذه و هي طبقة عريضة ، و الذي جرأهم على ذلك هو الاستعمار ،لأنهم صنيعته ، و عملهم يدخل ضمن الخطة التي يعدها الاستعمار الغربي لغزو بلاد الإسلام ، فهم يمثلون القوى التي تدخل الأمة تحت شعار الدين و الخدمات الاجتماعية و الثقافية لضرب الصفوف من الخلف ، و تفتح لهم أبوابا يدخلون منها إلى ضرب القلب الذي هو الدين الإسلامي.
و عليه لن توصد الأبواب في وجه العدو إلا بالتذكير والوعظ و الإرشاد و نشر تعاليم القرآن بين سائر أفراد الأمة ، إذ تعتبر فئة الشباب المسلم من أكثر الفئات المتضررة من
التغريب الممسوخ عندما اعتنق ثقافة الغرب فكرا و سلوكا ،و حاول تطبيقها مبهورا على المجتمع الإسلامي و أدخل هذه الأمراض الفتاكة على الأسر المسلمة لتقويضها من الداخل حين توجه إلى المرأة المسلمة أسهم الإفلاس بتحييدها عن مهامها النبيلة في التربية و تنشئة الجيل الصاعد عل المبادئ و القيم ، فسياسة التغريب تهب رياحها على الأخضر و اليابس لأن الهدف واضح و هو ضرب الإسلام و كل من يعتنقه و كل من يطبق تعاليمه في الأسرة لمحاولة تجريده من مبادئه القيمية التي شرحها القرآن الكريم بالتفسير و دلت عليها السنة النبوية بأحداث وقعت للرسول صلى الله عليه وسلم و لأصحابه الكرام ، و هو ما يمحو صفة الشك من أن الغرب يحب للأمة الإسلامية الخير و يحب لها الفلاح اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا و ثقافيا ، بالعكس إن لم يتجدد الإيمان في قلوب المسلمين و إعادة رسكلة الأفكار و المشاعر بما يتوافق و العجلة التحديثية للمجتمعات ،فانه سيكون من الصعب مواكبة التطورات و حماية أنفسنا من الانحراف و التضليل.
ثانيا :مدى تأثير العولمة على تجديد الإيمان كعامل خارجي
إن قضية الحرية السياسية في العالم العربي هي في أزمة آخذة للخناق ، كما تعتبر مسألة الرخاء و الازدهار الاقتصادي مسألة يشوبها النقص لأنها لم تتم على النحو الذي كان مرجوا منها ، فلا زالت الطبقات الفقيرة في مجتمعاتنا تشكو العوز و الفاقة و ضيق العيش و غلاء الأسعار و عدم تكافؤ الفرص ،و هكذا لم تشبع جماهير من جوع و لم تأمن من خوف بسبب ضعف الوازع الديني و بسبب تفكك المجتمع و ابتعاده عن العيش بالمبادئ السامية للإسلام ، هي نتائج تجعل المسلم يبحث في بنود العولمة و مضامينها فيما إن كانت تحمل السعة القيمية للمبادئ الإسلامية ، حتى لا يتأثر الإيمان بتوابع الركود و سراب الإمعة ، فيصبح المجتمع الإسلامي بأطيافه المختلفة يشن حربا على العدو ووسائله الحديثة و المميعة و التي لا تخدم المبادئ بالدرجة الأولى بقدر ما تخدم أجندات أجنبية تسعى دائما لضرب الإسلام في العمق من أجل تشويه سمعته و الإخلال بميزان الإيمان لدى معتنقيه .
فالمستقرئ للصراع الدائر في العالم و الأزمة الروحية و النفسية التي يمر بها ، و التخبط الاجتماعي الذي يرزح تحته ،و التحلل الخلقي الذي يشكو منه عقلاؤه ، و الجهود التي دعت إليها العولمة من أجل تقفي أثر الإسلام إنما زادت من اعتناقه و حتى أصيب أعداء النهضة بداء الجمود ، و عليه يلاحظ الكل أن الغرب أفلس في قياداته و عجز عن حمل الأمانة ، لأن العالم اليوم بحاجة إلى رسالة جديدة متجددة ، حضارية عالمية إنسانية ،أخلاقية ربانية ، لا شرقية و لا غربية ،إنما حضارة تجمع بين الإيمان و العلم فتجدده ، و تمزج بين الروح و المادة فتحفظها، و توفق بين حفظ الحريات الإنسانية و بين مصلحة المجتمع ، لتصب كلها في قالب التوازن .
ثالثا : آليات تجديد الإيمان في ظل اللاستقرار العالمي
لولا صبر الزارع على بذره ما حصد ، و لولا صبر الغارس على غرسه ما جنى ، و لولا صبر الطالب على درسه ما تخرج، و لولا صبر المقاتل في ساح الوغى ما انتصر ، و هكذا كل الناجحين في الدنيا إنما حققوا آمالهم بالصبر ، كذلك تجديد الإيمان إنما يحتاج لصبر و تدبر في مكنونات الروح و بعد النظر نحومجتمع يعج بالمتناقضات و الفتن و المشاكل و كذا على الأفق العالمي أين نخرت الحروب استقرار الدول فضاعت الحقوق تحت لواء الغلبة للقوي ، فلم يعد المهاجر من بلده يعرف كيف يسترد حقه ، و قد يعثر المؤمن و لا يلبث أن ينهض و قد يخطىء ثم يوشك أن يصيب ، و قد يجرح ثم لا يلبث أن يندمل الجرح و قد يفشل مرة و مرة فلا يلقي سلاحه و لا يستسلم لليأس و لا يفقد نور الأمل و شعاره في ذلك قول الشاعر الحكيم :
لا تيأسن و إن طالت مطالبـــــــــة إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق بذي صبر أن يحظى بحاجته و مدمن القرع للأبواب أن يلجا
لقد عرف محبي المجد و خطاب المعالي و طلاب السيادة أن الرفعة في الدنيا كالفوز في الآخرة ، لا تنال إلا بركوب متن المشقات و تجرع غصص الآلام و الصبر عن كثير مما يحب و على كثير مما يكره ، و بدون هذا لا يتم أي عمل و لا يتحقق أمل، و من
تخيل غير هذا الطريق كان كالذي قال لابن سيرين : إني رأيتني في النوم أسبح في غير ماء ، و أطير بغير جناح ،فقال له : أنت رجل كثير الأماني و الأحلام ، تتمنى ما لا يقع ، و تحلم بما لا يتحقق .
و مما لا شك فيه أن هناك انحطاط عام في كل ميدان من ميادين الحياة الإسلامية –نتيجة لبعد المسلمين عن الإسلام الصحيح فهما و تطبيقا- نعم هناك تخلف في العلم و جمود في التفكير ، و ركود في الفقه و التشريع و قصور في التربية و التوجيه ، و فساد في الإدارة و الحكم ، و صار العدو الزاحف المنتصر متفوقا في هذه المجالات ، فبهر أبصار الكثيرين و خلب ألبابهم ، فبدأووا يسيرون في دروبه و يتبعون سننه ، شبرا بشبر و ذراعا بذراع .
و المستقرأ للصراع الدائر في العالم ، و الأزمة الروحية و النفسية التي يمر بها و التخبط الاجتماعي الذي يرزح تحته ، و التحلل الخلقي الذي يشكو منه عقلاؤه –يهتدي إلى أن الاتجاه الذي لا بد أن يسود العالم هو الإسلام ، و قد آن للشعوب أن تتحرر من التبعية للغرب و الشرق ، و أن ترفض كل حل مستورد و كل منهج دخيل ،و أن تتخذ من الإسلام الصحيح حلا لمشكلاتها و دستورا لحياتها ، فقد جاءتهم النذر و جاءهم من الأحداث و الأنباء ما فيه مزدجر .
أصبحنا ننظر للإيمان في عالم يعج باللاستقرار على أنه المخلص الوحيد للعودة إلى عصر القوة و الحضارة و الديمومة ، و له في ذلك آليات لتجديده و هو أخذ العبرة من النكسات التي أصابت العالم الإسلام جراء التقهقر في تبوأ المناصب الأولى للريادة بعد أن كان العرب الممجدون للعلم و للدين هم السباقون في صناع المهد الأول و الحضن الآمن للحضارة الإسلامية ، لذلك بات ضروريا اليوم تجديد الإيمان برؤى تواكب تحضرنا بما يتلاءم مع ديننا كونه صالح لكل زمان و مكان ، فالتغيير لن يكون في الإسلام و إنما في الذهنيات و الأفكار و الاستراتيجيات حتى ننهض من كبوتنا و نحقق أحلامنا التي تبددت بفعل الركود و الفتور الإيماني الذي أضحى من الضروري تجديده .
على أية حال، فقد عادت مشكلة "التخلف" إلى البروز ، و أصبح "التقدم" أو "النهضة" في مقدمة ما يعمل له الحكام و الرؤساء ، و يدعو إليه الساسة و الزعماء ، بعد التحرير من نير الاستعمار العسكري و السياسي و الفكري ، لكن لم يفهم الكثيرون ممن يريدون خلاصا لأزماتهم أنهم هم أنفسهم خلطوا بين ما تحتاج إليه النهضة –أو التقدم – من الغرب و ما لا تحتاج إليه من ناحية أخرى ، لكن تجديد الإيمان يكشف الكثير من الغموض لأنه مرتبط بالجانب النفسي و الفكري و الأخلاقي للأمة ، لأنه الجانب الذي يعيد إليها حياتها و روح الحياة بنكهة جديدة تضخ دماء التحضر بكل ثقة و يسر و أمان ،ما دام هذا الإيمان مرتبط بالروحانيات و متعلق بتوبة المؤمن و عزمه على إيجاد الحلول لأزماته التي لها صلة مباشرة بأزمة المجتمع الذي يتفاعل فيه مع الآخرين ، فينشأ نسيج اجتماعي جديد و تبنى ركائز التقدم بكل استقلالية و شفافية، لأن التحضر لا يمس أمة واحدة و يحرم البقية ، بل هو مبدأ يتصل مباشرة بتمكين القيم و المبادئ التي تأخذ من العقيدة السمحة بنود الاستقرار و الديمومة و الريادة .
خاتمــــــة :
إن الإيمان متجذر في الروح المؤمنة المستمدة لقوة البقاء له من العقيدة الإسلامية التي تتميز بأنها ايجابية لها الأثر الطيب في حياة الأمة التي تكونت بها ، و في حياة كل إنسان اعتنقها ، فهي ذات أثر فعال في الحياة ، و ينبع هذا التأثير من أنها موافقة للفطرة الإنسانية و مبنية على العقل فيتجاوب معها الإنسان و يكون لها أعمق الجذور ، كما أن هذه الايجابية تبرز بمظاهر دالة عليها و هي آثارها الطيبة ، أما أنها موافقة للفطرة الإنسانية فواضح كل الوضوح في أن التدين موجود بوجود الإنسان و هذه حقيقة من الحقائق المسلم بها ، و الله تعالى أخبرنا بأن التدين فطري
في الإنسان إذ قال مصداقا لقوله " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " سورة الروم الآية 30.
و رابطة العقيدة رابطة نهضة و سير بالإنسان في طريق الكمال الإنساني لما تمتاز به العقيدة الإسلامية من قوة تصهر النفوس و الشعوب و الأمم في بوتقة واحدة و تجمعهم على الخير و الهدى فتذوب بينهم الفوارق مهما عظمت و تتقارب منهم الأفكار مهما اختلفت و كل هذا التآلف إنما يصنعه الإيمان الصادق الخالي من الشوائب و لن تكون التصفية له من هذا الشوائب العالقة إلا بالتجديد الذي يمنحه حياة جديدة تؤثر و تتأثر بالمحيط المساهم في عملية النهضة .
-
د.سميرة بيطاممفكرة و باحثة في القضايا الإجتماعية