الرحلة المليونية

 يا لها من رحلة عجيبة تلكم التي تنطلق في ظلمة أصلاب الرجال وفِي أجواء الود والسكينة والرحمة والقبول والرضا. إنها بحق رحلة التضحية ونبذ الأنانية. رحلة تنافسية تشق طريقها بين الموت والحياة وتحمل بذرة الحياة من طالب إلى مطلوب؛ طالب يخوض ويكابد ومطلوب في قرار يترقب.

أما أبطالها فمئات الملايين من الحيامن تُنتزع انتزاعا من أصلاب الرجال و تُقذف كالسهام نحو مستقر لها. 

ومن تلكم الملايين المئات لا تصل في النهاية سوى بضع عشرات إلى البييضة المقصودة؛ أما الباقي فبعضه يلاقي حتفه غرقا بمجرد الاختلاط بماء المرأة؛ ويَعلق البعض الآخر في حواجز بيولوجية إما هيكلية أو مناعية. وبهلاك هؤلاء وأولئك، يفسح المجال للمتحررين من تلك الصعاب فينشطون وينطلقون سابحين ضد التيار قاطعين مسافة لا تتجاوز خمسة عشر سنتيمترا في مدة لا تقل عن سبع ساعات.

إنها بمثابة "السابقات" تتلاحق للوصول إلى البييضة، بعد تيه أخرى في الاتجاه نحو المبيض الخطأ، فتهتدي إليها ويكون الحظ حليف حيمن واحد في نهاية المطاف حين يخترق جدار تلكم البييضة فيحرم الآخرين من هذا الإمتياز. 

إنه البطل الخارق الثاقب المقتحم لجدار البييضة، المُلقي بنواته الوراثية في نواة تلكم البييضة، عسى أن يحصل التلاحم والتمازج بينهما بما يحمله كل منهما من شفرات حيوية و مكنون وراثي هما في النهاية قوام تخلق المولود الجديد.

وهل هذا التخلق سوى أوامر جينية تُنفذ بدقة متناهية في الحياة الدنيا وتختزن معلومات دقيقة وافية عن جميع ما يصدر من كل مكلف عاقل من أفعال إرادية تنشر له يوم الحساب. 

إنها برامج لمراحل تكوين النطفة ثم العلقة ثم المضغة فالعظام فاللحم فالخلق الآخر، فتبارك الله أحسن الخالقين. 

وعبر هذه المراحل الجنينية في القرار المكين ينشأ كل جنس بعينه قبل أن يرى النور طفلا فشابا ثم كهلا وشيخا إن قدر له أن يكمل جميع الأطوار، وإلا فإنه يقضي ما شاء الله له أن يقضي في هذه الحياة الدنيا قبل موت خلاياه وتوقف أعضائه عن العمل حين تقبض روحه. 

ثم يأتي طور النفخ في الصور حين ترجف الأرض رجفا، وحينها فإن الشفرات الوراثية التي دُبر بها تخلق الإنسان في الدنيا سيُدبر بها، فيما يبدو، بعثه بعد موته بإذن ربه.

ومن يدري فلعل تلكم الرحلة العجيبة أن تكون من تجليات "النازعات" و"الناشطات" و"السابحات" "فالسابقات" بوصفها لمحات عن مراحل تدبير أمر الخلق وبعث الإنسان. 

وصدق الله خالق الخلائق إذ يقول: 

{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا. وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا. وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا. فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا. فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات : 1-5]

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون : 12-16]

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج : 5]

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر : 68]

والله تعالى أعلم