اليوم فقط، بعد مضي ستة أشهر بأكملها، وجدتني و قد إختلجتني رغبة رهيبة في العزف على حاسبي، لست أنكر أن مادة الفكرة راودتني منذ أكثر من سنة مضت، لكن المشاغل صرفتني عنها فصرفت ناظري جزئيا عنها و شعلة الفكرة لم تنطفئ قط بداخلي. لا زلت أذكر ذلك اليوم، لعله في أواخر شهر ماي من السنة الماضية حين حدثت أحد أصدقائي عما أشرع اليوم في تدوينه، حينها كنا في فترة حرجة من الموسم الدراسي، فقد كنا مقبلين على عرض مشروع ختم مسار الدراسة بسلك الهندسة بالرباط، كانت الفكرة تسامرني و أنا غارق في تحضير التقرير، تعديل المنتوج، إعداد العرض، فأدفعها بكل جلد، ثم أرجئها إلى العطلة الصيفية بكل يقين و رزانة. فمعلوم أن المرء كلما كثرت عليه الواجبات إلا و بحث عن مهرب منها بأي شكل من الأشكال، فمنا من لا تحلو له مطالعة الكتب إلا في فترة الإمتحانات، فكنت أرتاب من أن أكون ممن تنطبق عليهم هذه القاعدة. رحب صديقي بتلك الفكرة و باتت لديه هو الآخر من المخططات المستقبلية.
اليوم فقط، لملمت وريقاتي و معها كلماتي و كلي عزم في أن أخط كفاحاً أبياً، أو كفاحَ أبي، أياً كانت الكلمات فالموضوع هو أبي، فليكن كفاح أبي الأبي، كانت فكرتي تقتضي أن أداوم في العطلة الصيفية على جلسات منتظمة مع الوالد أجتهد فيها على تسجيل سرد لسيرته الذاتية صوتيا، ثم العمل على إعادة نسجه بالأسلوب الذي أرتضي و كأنه هو البطل و الراوي، فلطالما حدثني أبي عن حياته الحافلة بالأحداث و التقلبات، بالتجارب و الذكريات، لكنني في هذه المرة أردت أن يعيد سردها علي في تسلسلها الزمني بكل تفاصيلها المملة، أردت أن أحتفظ بنبرات صوته الشجي وهو يغوص في دواخله يقلب في صفحات ذاكرته عن كل صغيرة و كبيرة في دقائق حياته، أردت أن أقدم له عملا بسيطا تعكس سطوره أيام عمره المشرف على الإنتهاء، عمل يشعره بشيء من إهتمامي و إنبهاري بشخصه العزيز.
راودتني الفكرة منذ سنة، لكنني في هذه المرة كنت جازما بشأنها، باغتنا شهر رمضان هذه السنة و نحن لما ننه تقديم عروض مشاريع ختم سلك الهندسة، عندما علمت أن الغد هو أول أيام الشهر المبارك، بادرت إلى جمع متاعي، لم يكن من عادتي أن أقضي يوما واحدا من شهر الصيام خارج الجو العائلي، و قد كانت هذه العادة تثير الإستغراب بين كافة الأصدقاء من الطلاب، فكل واحد منهم قد قطع المسافات الطوال للنزول بالرباط بغية إتمام الدراسة، و تبقى زيارة الوالدين بالنسبة لهم أمرا عسيرا نظرا لبعد المسافة و هشاشة المواصلات عندنا، فصارت مسألة الاغتراب مع مرور الأيام بالنسبة لهم أمرا هينا متقبلا، لكن الأمر مختلف معي، فماهي إلا ساعتان على متن القطار، حتى أكون قد نزل بأحب المدن إلى قلبي، مدينة مكناس. كان تاريخ تقديم العرض خاصتي قد حدد في العاشر من رمضان، فما كان بوسعي إلا أن أضع اللمسات الأخيرة على كل جزئية من العمل، لست أدري لماذا؟ لكني لم أكن قد أخذت الأمر على محمل الجد كغالبية الطلاب، كنت أقولها بملء في، إنما هي مسرحية نحن أبطالها، هذا ما جعلني لا أستدعي أحدا في اليوم الموعود.
مرت أيام رمضان المعدودات بسرعة خيالية، و لأول مرة أرى فيها أبي لم يصم سوى اليومين الأولين، كانت مائدة السحور خالية من نبراته و نظراته، لطالما جلست عن مَيْسرته و أخي الأصغر أنس، عن مَيمَنته، فكان من حسنات ذلك الموقع، أن كل ما فضل من طعامه كان غنيمة لنا، لطالما كان يردد هذه الكلمات كلما هم بالجلوس : " تسحروا فإن في السحور بركة "، " لا تكثروا من شرب الماء "، كانت كلماته تلك في هذه المرة تتردد في مسامعي دون أن أرى قائلها.
- أحمد، ألق نظرة على والدك، لعله يرغب في مشاركتنا مائدة السحور هذه المرة؟
كانت أمي تصر في كل مجلس نجلسه على أن تنادي على أبي، لكنه كان قد إستلقى على سريره، أمسك سبحته و صار يحرك شفتيه بأذكاره و دعواته، فما كان منه إلا أن يحرك رأسه بالإيجاب دون أن يخرج من خلوته بكلمة، يحرك رأسه بالإيجاب سواء سألته بالنفي أو بالإثبات !! لكنه كان يخجل من أن يشاركنا مائدة السحور ثم يصبح مفطراً، هذا الخجل كان يلازمه طيلة نهاره، فكلما أراد أن يتناول وجبة من وجنات النهات إلا و تستر بحذر فائق، و توارى، بمساعدة أمي، في المطبخ كي لا تقع عيناه في عيني أحدنا و هو يرمي بلقيمات الطعام في جوفه عن مضض. لكن الأمر مختلف عنه على مائدة الإفطار المسائية ...
-
أحمد الحضريدم قلبي ... مداد ريشتي