قراءة في روية الغريب
لنادي جادو
في الماضي كانت البيوت المصرية تعتمد على "السقا" تماما سواء في المدن أو القرى الذي كانت مهمته جلب المياه من الآبار أو النهر و الترع ثم نقلها بعد ذلك إلى البيوت غنيها و فقيرها ، و كانت الأخلاق و الأمانة هما رأس مال "السقا" الوحيد بالإضافة إلى قربته المصنوعة من جلد الماعز المشدود ، تلك المهنة تميزت على مر العصور المختلفة بالعِشرة و المودة بين صاحبها و المنتفعين من مياهها بالبيوت .
كانت هناك مهن إضافية تلقى على عاتق "السقا" و هي إخماد الحرائق عند حدوثها حيث كانت تؤخذ عليهم التعهدات باستعدادهم لذلك ، فكانوا يهرعون إلى أماكن نشوب الحرائق و يساعدهم في إخمادها كل من استطاع من أهل الحي أو القرية . كذلك يقوم "السقا" برش الأزقة الترابية و الأسواق لتخفيف لظى الصيف ، و يقوم بتوزيع الماء للظمأى من المارة مجانا .
تلك المهنة التي يتوارثها الأبناء عن الآباء و الأجداد كان أجرها زهيد بالكاد يكفي أساسيات المعيشة و ربما لا يكفي ، فكان أهل الخير يمنحونه كسوة جديدة و يقدمون له اللحوم في الأعياد و المناسبات الخاصة .
دائما ما يرددون على لسان الببغاء مقولة " أبوك السقا مات " .. هل مات السقا حقا ؟ لا .. لم يمت ، فمهنة "السقا" ما زالت باقية إلى الآن رغم تنوعها باختلاف العصور . رغم أن صورتها القديمة شارفت على الاندثار إلا أنها قد طرأت عليها بعض التطورات على صعيد ندرتها ، فلم تعد تستخدم القربة الجلدية المتعارف عليها بل استبدلت بوعاء من الألمنيوم حتى يتقبل الناس الشرب منها .
بعد تلك المقدمة التي رأيت أنها ضرورية جدا للقارئ الذي لم يعاصر تلك المهنة أو لم يألفها من شبابنا و أطفالنا ، و الآن فلتسمحوا لي بالبدء في التجوال بكم بين مروج رواية " الغريب " للكاتب و الشاعر / نادي جاد .
" الغريب " عنوان يبدو من الوهلة الاولى سهلا ، فالجميع يعرف مضمون ذلك الاسم و تعريفه ، فهو ذلك القادم على مكان لا ينتمي إليه غنيا كان أم فقيرا ، و لا يختلف مصيره بين سكان البلدة أو القرية إلى أن يشاء الله تغييره سواء كان ذلك الغريب فاعلا أو مفعولا به جراء حدث جلل .
" الغريب " .. اختار الكاتب اسما مُعرفا عنوانا لروايته و لم يتخذه في هيئة نكرة و ذلك يدل على أنه يشير إلى شخص معلوم له ، ربما عايش أحداث قصته بالفعل أو سمعها ، و ربما أراد أن يلمح بشيء ما سيبوح به بين سطور روايته .
قدم الكاتب لروايته باعتذار رقيق يليق بشاعر عن اختيار اسم " الغريب " كعنوان لروايته و هو عنوان تكرر في عدة قصص لكُتاب كثيرين على مدى عصور أدبية مختلفة ، و علل اختياره بأنه كنية بطل روايته و اسم القرية موقع الأحداث بالفعل ، و بذلك وضح سبب تعريف الاسم لأن البطل و القرية معلومين للكاتب بالفعل .
" الشيخ بكري " كما يلقبه سكان قريته و الذي لا يحمل من مؤهلات الشيخ سوى بعض قصار السور و التي حفظها في الصغر على يد عريف الكُتاب . و كان ضيف الشرف في حلقات أذكار القرية ، فيلبي الدعوة ليس من أجل أكل اللحم و الكشك فقط و إنما من أجل أن يغتسل من أتراحه و شقائه بأذكارها . ذلك الشاب الفتي " سقا " الكفر بسيط الحال أو قُل معدوم الحال يملك من الإدراك أيسره ، نستشعر ذلك حينما يسأل عن ( الواحده ال عمالين يتكلموا عنها ) .. فيجيبه أحد الجالسين بدكان " الليثي " صاحب المذياع بأن الحديث عن ( الوحدة مع سوريا ) ، كذلك عندما يسأل أمه ( هي البطة بتتاكل منين يا اما ) عندما استمع لأغنية ( أكلك منين يا بطة ) للمطربة الراحلة صباح . كان كغيره لديه أحلام مشروعة منها شراء راديو و امتلاك أرضا لا تتعدى مساحتها النصف فدان و أكبرها حلم السفر للقاهرة .
عندما ماتت " الحولية " الوحيدة لديه و التي اشتراها من أجل تسمينها و تربيتها ثم بيعها و الشراء بثمنها ما يستر به بدن أمه المُسنة عند موتها دون اللجوء ل " كفن الصدقة " الذي بالكاد يغطي الجسد . كان مشتهاه ستر أمه بكامل جسدهما بعدما شاهد جثمان أبيه و قد ظهرت قدماه من كفن الصدقة . صمت يسير غلف المكان بعد سماعه نبأ موت " الحولية " أعقبه قراره بعقد حلقة ذكر ، ثم ركض ليدعو الذاكرين و الضيوف ، و طلب من أمه اعداد الخروف و عمل الكشك كطعام للذاكرين كعادة أهل قريته .
أثار الكاتب موضوع التلاحم و التعايش بين أبناء القرية و الترابط بطائفتيها " المسيحيون و المسلمون " و هي صفة أصيلة يتمتع بها المجتمع المصري منذ قرون ، و كذلك محاولة الوقيعة بين الطائفتين و إثارة الفتن من آن لآخر . حيث وضح تفاصيل العلاقة بين " بكري " و " الخواجة " ( الخواجة يُطلق على المسيحين و اعتاده الناس بالريف المصري منذ زمن طويل ) . كان " الخواجة " دون سائر سكان الكفر كاتم أسرار " بكري " ، و الذي يقص عليه ما لا يقصه على صديقه " الحلاق " ، كذلك ولّاه تسجيل ما له في كل بيت جراء سقايته . سرد علينا كذلك موقف " الشيخ سليم " من خطيب المسجد عندما اتهم النصارى في خطبة الجمعة بالكُفر ، فنهره " سليم " و حذره من تكرار مثل هذا القول و إلا سيكون مصيره عدم ارتقاء المنبر بعدها .. قائلا : احنا عايشين مع بعض بقالنا ألف سنة و مش عايزين فتن .
( هو أنت غريب ) عبارة تستفذ " بكري " عند سماعها و تدفعه للتفكير في أمر شغل باله و طالما حاول نسيانه ( من هو ؟ أهو سليل هذه الأسرة العريقة التي وفد عميدها إلى القرية منذ مئات السنين ، و اشترى معظم أرضها و صاحب ضريحها " الشيخ الغريب " ، تلك الأسرة التي باع حفيد الغريب نصيبه من الأرض ليصرفه على ملذاته و مغامراته ليورث أبناءه الفقر فاضطروا للعمل بالسقاية ؟ أم ينتمي لغريب آخر وفد للقرية هاربا من الصعيد مطاردا طلبا للثأر ، فعمل بالسقاية و لقبوه بالغريب ليميزوه عن أهلها ؟ لكن أحد معمري القرية كان قد أقسم له بعدم وجود غريب بالقريبة سوى غريب واحد " الشيخ الغريب " ، أما الغريب المطارد ما هو سوى شائعة أطلقتها أسرة الغريب ليدفعوا عنهم خزي الفقر و مهانة العمل بالسقاية .
ذلك الأمر عمق بداخله احساسه بعدم الانتماء للقرية و دعمه عدم امتلاكه لأرض بها ( فالأرض عشق القروي و هي التي ترسخ بذاته كينونته الريفية ) . احساس بغيض يتملكه فهو كما عبر عنه الكاتب بالصفحة ٢٥ ( هو بين الحضر غريب عنهم ، و بين الفلاحين ليس واحدا منهم ) ، يدلل على ذلك الاحساس عبارة " بكري " الأثيرة لديه ( ما تقولش أنا فلاح و طين الأرض مش على رجليك ) .
مهنة السقاية لازمته كظله حتى عندما دفعته رغبته في الانتماء و تملك قطعة أرض للسفر مع عمال التراحيل إلى الوادي الجديد ، حيث ألزمه مسؤول الترحيلة بجلب ( قربته ) معه ، و في المزرعة وضعه أمام الأمر الواقع بأمره بإحضار الماء للجميع ، و كأن السقاية قدره الذي لا فكاك منه .
رغم أن حُسن الخُلق و أدبه الجم و استقامته كانوا صكوك العمل بالسقاية و ولوجه البيوت و الحفاظ على أسرارها و فتياتها ، إلا أنها لم تشفع له في عيون نساء رخيصات . راودته إحداهن يوما فلم يُذعن لغوايتها ، فأطلقت عليه تلك الشائعة الرخيصة و التي نالت من رجولته التي هي أهم مقومات الرجل الشرقي و الريفي بالأخص . أكانت تلك الشائعة السبب في عدم اقباله على الزواج و التفكير به ؟ أم عدم تشجيع أمه على الزواج ( رغم التبكير بزواج الأبناء سواء ذكرا أم أنثى في الريف المصري ) و ذلك للاحتفاظ بوحيدها ؟ أم فقره و عدم اتساع عشته لعروس تحل كضيف ثالث بها ؟ أم تخبط مشاعره بين " زينب " التي رشحتها له أمه و بين " ريم الغضبان " زوجة " الشيخ سليم " على زوجتين كلاهن لم ينجبن و فجأة حملت " ريم " و وضعت طفلا جميلا ؟
تذكر " بكري " تلك الجملة المريرة التي قالها " عبد الفضيل " والد " زينب " يوم دعوته على خطبتها
عبد الفضيل : دانت زين الرجال و ربنا هيشفيك إن شاء الله
بكري : يشفيني ؟!!!! يشفيني ؟!!!!!
راح يكررها و قد أطبقت على صدره ، دوار أطاح بالنخيل البعيد فدار في حلقات سريعة ، نفث الهواء الساخن بالرمال في وجهه صائحا ( أن اصحو أيها الغافل زمنا ) . الآن فقط استوعب أقوالا سمعها و أحداثا مرت به مر الكرام ، تذكر ما حدث يوما على شط الترعة عندما خرجت ثلة من نساء القرية منها ، لما أبصرن رجلا بدأ الهرج و التحذير من إحداهن ، فاستدار ليترك المكان ، عندئذ صرعته كلماتها التي صاحبتها الضحكات منهن ( بلا نيلة ده بكري ) ، و ردت أخرى ( ما تخافوش منه احنا ولايا زي بعض ) . غضب سرى بدمه ، يحرقه ، يأكله ، يدفعه للصراخ و العراك و القتال ، ها هي الحياة تكشف عن وجهها القبيح و تخلع عن الناس أقنعتهم القميئة . نهض صارخا تجاه الكفر ( و الله لأزرع الكفر عيال ) ، ثم أفرغ قربته الحبلى بالماء نكاية بسكان القرية . سار على غير هدى حتى طاف بالمقابر فتوقف أمام مقبرة الصدقة حيث يرقد والده ، شرع في قراءة الفاتحة التي لم يستطع إكمالها ، فغادر هائما في الحقول .
توجه لدار " عبد الفضيل " في الموعد المحدد ليحضر خطبة ابنته ، شاهد " زينب " بثوبها الأبيض ، تساءل فأخبروه بقرارهم بعقد القران بذات الليلة ، من هول المفاجأة هم بالانصراف بعد تقديم التهنئة ببالغ الصعوبة . بات ليلته يحدق في الظلام تارة و في النجوم تارة أخرى ، تلاحقه الصور و الأصوات ( هو أنت غريب ؟ .... ما تخافوش ده بكري .... ربنا يشفيك ) .
في الصباح خرج و رأسه تكاد تلاصق صدره ، و قد ثقلت عليه قربته لأول مرة منذ أن حملها ، نظر إلى قريته كزائر حط عليها للتو . لأول مرة تلهب الرمال قدميه المشققتين ، لأول مرة تجلده الشمس بسياط نيرانها ، لأول مرة يشعر بالفراغ اللا متناه بالنسبة لضآلة حجمه . لأول مرة يلفت انتباهه ضريح " الشيخ الغريب " ، يسمعه يناديه ( تعال يا بكري .. كفاية كده يا ابني .. انت ما لكش في الكفر حاجة .. انت غريب يا بكري ) .
غاب الوعي بالزمان و المكان ، و تناثرت الذكريات أمام عينيه حتى أحكمت الحلقة حوله فلم يملك فرارا و لا فكاكا منها . ها هي بأنوثتها المتفجرة و جاذبيتها الناعمة تفتح له الأبواب ، تأذن له بالدخول ، تُفسح الطُرق ، تخبره بغياب زوجها ببلدة أخرى ، شيء بداخله دفعه للاستجابة . يسارع بالانصراف ، " ريم " تلاحقه و هي تكمل ارتداء ملابسها ، تناديه محذرة ( الكلام معناه الموت .. فاهم .. و حتى لو قلت ما فيش حد هيصدقك ) ، ذكرياته التعسة مع أخيها تلاحقه ، فيجذبها إلى الداخل مرة أخرى ليعيد الكرة ، تدعي عدم الرغبة بدلال زاده نشوة فأفرغ رغبته من جديد .
يعود لداره ، يغتسل ، يرتدي جلبابه الوحيد و يأوي لجميزته الحبيبة ، يبتسم ، يتجهم ، يستغفر ، ثم يتأوه لاعنا إياها . أثناء صلاة العشاء شعر برعشة تزلزله ، انسحب من بين المصليين ، و أسرع بالخروج كعبد آبق . بعد رحلة ليست بالقصيرة من خيالات و ذكريات آوى إلى مقام " الشيخ الغريب " ، و نام ، استيقظ ليواصل شروده بالحقول حتى وصل إلى رجلين يشربان الشاي و يتسامران ، عقدت الدهشة لسانيهما من صمت " بكري " . نفحه أحدهما ورقة نقدية ، ابتعد " بكري " قليلا ، ثم أفلتها من بين أصابعه ، طارت الورقة ، عاد مسرعا بينما يتساءل عن سبب إقدامه على ذلك التصرف الغريب ، و هل فعله بوعي كامل أم باللا وعي ؟ أكان السبب في فعلته المشينة أن " الشيخ سليم " هو والد " عبد الله " الذي أهانه في طفولته و عيره بفقره بخلع سرواله أمام كل الصبية في الكتاب ؟ أم أنه ارتكب إثما في حق "الشيخ سليم" ( زوج ريم ) فجاء إليه ليقبل قدمه معتذرا ؟
ذكريات .. ذكريات .. ذكريات ، أمواج هادرة ، عواصف ضارية ، دوامات فتاكة ابتلعته حيث لا مكان لحياة و موت و لا وجود لحب و بغض و لا مكان ليأس و أمل .
ركضت " هاجر " الأم المكلومة إلى المقابر حين خبروها بمكان " بكري " كطائر ذبيح مرددة ( انت غلبان يا بكري .. دا انت بتاع ربنا ) ، و قد عصتها الدموع و تقطعت أنفاسها حتى وصلت إليه . لما شاهدته بتلك الحالة هطل الدمع مدرارا و سألته ( أنا مين يا بكري ؟) حملق و لم يرد ، قايضت الغضب بالدموع ، و صرخت على باب مقام الغريب ( اخترته يا شيخ غريب ؟ ما لقتش إلا بكري الغلبان ؟) . ثم عادت إلى وحيدها ، جلست و أسندت رأسه على صدرها ، استسلم كطفل يداعبه النعاس ، و قد احتلت ابتسامة الاستسلام ملامحه .
عادت الأم للسقاية لإعالة ابنها الضائع في شروده فلا تعاوده حالة الصحو إلا نادرا ، و القابع عند مقام الشيخ الغريب و قد شيبته ذكريات تلك الليلة و احساسه بالإثم المبين . عاودته نوبة صحوة أخيرة فتذكر ليلة الحريق الكبير الذي بسببه أطلقوا عليه " الشيخ بكري " .
استيقظت القرية على فاجعتين حيث ماتت " ريم " بعد إجراء جراحة عاجلة بيومين ، و قد شرد بعدها الشيخ الموقر حتى عن عبارات العزاء ، و قد منع ( على غير المألوف ) أي انسان من دخول الغرفة التي سُجي فيها جثمانها ، و قام بتجهيزها بنفسه مع زوجة أخيها " عبد الله " فقط . و الثانية اكتشاف جثمان بكري في الترعة المجاورة لمقام الشيخ الغريب ، و قد ران صمت الموت و وشايات الشك و علامات التعجب و ثورة الاستفهام خلف الجدران المغلقة ( هل هي الصدفة و تدبير القدر أم هو الغدر و فعل البشر ؟ ) تربط بين الفاجعتين .
هل كان البطل غريبا بالفعل أم يعاني من اغتراب مادي أو معنوي ؟ هل " بكري " غريب بالفعل عن تلك القرية التي يعيش بها أم أنه يشعر بالاغتراب الناتج من شعوره بالعزلة و الضياع و الوحدة و عدم الانتماء مما زرع بنفسه عدم الثقة و الاحساس بالقلق و العدوان و رفض القيم و المعايير الاجتماعية و الاغتراب عن الحياة الأسرية و المعاناة من الضغوط النفسية .. ما أصعبه من سؤال جال بذهني أثناء قراءتي لرواية " الغريب " .
أصدقكم القول بأني لم أتعجل الإجابة على ذاك السؤال و تمهلت إلى حين الانتهاء من القراءة ، فرحت أمشط بين الأحداث و أنقب بين السطور حتى أتممتها .
" بكري " ذلك الشاب الثلاثيني كان يشعر بالاغتراب النفسي بكل ما يحمله من ضياع و وحدة برغم انخراطه وسط سكان قريته بكل طوائفهم بحكم مهنته ك " سقا " مما أدى لبلوغه الحد الأقصى من عدم الثقة بنفسه فألزمه القلق الدائم من قادم مجهول . كل ذلك دفعه للسقوط في دوامة الضغوط النفسية المتعددة و التي دفعته لتلك النهاية المؤسفة و المتوقعة لعلماء النفس لصاحب تلك الشخصية إن تفحلت مشاعرهم السلبية بالاغتراب و إن كانت تلك النهاية مباغتة للقارئ .
الخاتمة
١. نجح الكاتب في وصف تفاصيل شخوص روايته من حيث الملامح الريفية و الخصال و الأفعال و الأقوال .. فمثلا عندما رغب في وصف البطل كتب ( كان وجهه كصفحة البحر يتغير لونه بتبدل حاله .. فهو أسود مهموم .. و أزرق مكدود .. و أبيض في لحظات الصفو خاصة بعد أن يفرغ من صلاته ) . و هنا نرى أنه استخدم ما يشير للريف سواء ( البحر .. و المقصود به الترعة أو النهر حسب القرية ) ، أسود ( رمز إلى الأرض السمراء ) ، أزرق ( رمز إلى السماء الصافية ) ، و أبيض ( رمز للصفاء النفسي و قد استخدمه بحرفية بتحديده لوقت الصلاة ) .
٢. الكاتب روايته ببعض الأشعار و الأغاني المتداولة بالريف المصري فمثلا كتب في تقدمته
ما أحمق – ما أحمق
أن نركض مثل جوادٍ
قد ركب الريحْ
تدفعهُ سياطُ الفارسِ
للمجهول
لا يسأل أين و لماذا
لا يُنسب مجدٌ لجوادٍ
فالمجدُ نصيب الفرسانْ
و ها هو " بكري " قد ركض كجواد أنهكه سياط الغربة و الاغتراب و الأقاويل ، فإلى أين دفعته تلك السياط ؟ إلى مجد سعى إليه و لو بمخيلته ؟ أم إلى زوال شموس رغباته و أحلامه الصرعى أسفل مخالب الفقر الذي توارثه عن أسلافه " السقاءين " بتلك القرية الوادعة ؟
٣. استخدم الكاتب مفردات بسيطة و سلسة و حوارات عامية تتواءم مع بساطة القرويين بالريف المصري الواقع أغلب سكانه تحت عباءة الجهل و الأمية .
٤. جاءت النهاية مباغتة للقارئ و بحبكة درامية كبيرة حينما نتساءل كأهل القرية هل هناك علاقة بين الفاجعتين ، و بتلك النهاية المفتوحة التي ترسخ مبدأ الثواب و العقاب الإلاهي في الدنيا قبل الآخرة و الذي لا يختلف في كل الديانات السماوية . ها هو بكري لم يحتمل جريرة ذنبه حين ضعف تحت إغراءات ريم و حقده الدفين على عبد الله منذ طفولته ، فشرد بين الحاضر و الماضي ، و الخير و الشر ، منبوذا بين ذكرياته إلى أن وافته المنية بين عشية و ضحاها .
٥. و أعود أخيرا لعنوان الرواية " الغريب " ذلك الاسم المعرف الذي أثار تساؤلات كثيرة بذهني لأستخلص منه نتيجة محزنة ( بأن كل منا في واقعنا يعرف ذلك الغريب جيدا سواء عايش من ينطبق عليه صفاته و مشاكله ، أو أننا جميعا غرباء في مجتمعات تُعزز فينا الشعور بالاغتراب النفسي أو المجتمعي ) .
هناك ملحوظتان أرجو أن يتقبلهما أستاذ نادي حيث أنهما لم يعيبا روعة الرواية على الإطلاق و لكني رغبت في اكتمال الروعة . الأولى سرد الرواية بأكملها دون تقسيمها إلى فصول مما أحدث شيئا من التشويش على القارئ في متابعة الأحداث ، الثانية خطأ غير مقصود بالتأكيد في الصفحات ٦٨:٧٠ حيث دخل البطل لصلاة العشاء و بعد خروجه اجتاحته الذكريات أثناء سيره في الحقول ، ثم نام أسفل صفصافة ليستيقظ وقت الغروب .. هل نام يوما كاملا تقريبا من بعد العشاء إلى مغيب شمس اليوم التالي ؟ أم حدث خطأ في توقيت الحدث ؟
تحياتي للروائي الرائع أستاذ / نادي جاد الذي طرح علينا مشاكل مجتمعية يعاني منها ريفنا الجميل في رواية تزخر بالمعاني و القيم و الجمال ، حقا تلك رواية تفخر بها المكتبة العربية .
-
حسن غريبعضو اتحاد كتاب مصر عضو نادي القصة بالقاهرة عضو أتيليه القاهرة للفنانين والكتاب عضو نادي القلم الدولي