بين الأتان و الحمارْ كان هذا الحوارْ
على مشارف المدينة ، كانت هناك حديقة للحيوان ، توزّعتْ على جنباتها أنواع كثيرة من الحيوانات
و أصناف متعدّدة من الطيور ، وفي الجهة الخلفية لمكتب إدارة الحديقة ، كان هناك سياج بداخله حمار يصول
و يجول لمفرده كيفما يشاء غير عابئٍ بشتّى الاحتجاجات منْ أصوات الحيوانات التي كانت تأتيه من زوايا
غير بعيدة ، و فجأةً توقّفتْ أمام باب حظيرته شاحنة من النوع الصغير ، لتخرج منه الأتان ذات الخطوط
المزركشة ، في الأول لم يصدّق الحمار ما تراه عيناه ، ظنّاً منه ، أنّ الإفراط في أكل البرسيم أثقل فطنته
و أغشى بصيرته ، بحيث لمْ يعدْ يميّز بين الألوان ، لكن سرعان ما تجلّت الحقيقة ، فعندما ذهب الجميع ، بدأت
الضيفة الجديدة تستكشف المكان يميناً وشمالاً ، ليبادرها الحمار بكلّ عفويّة قائلا ً :
- الحمد لله أنّهم أخيراً اعترفوا بظلمهم للحمار ، فاعترفوا بقيمتي وكياني .. ففي كلّ يوم يأتون لي بالبرسيمِ
و العلفِ و القطاني .. ولكيْ يكفّروا عن ذنوبهم جاءوا هذه المرّة بهديّةٍ ، جاءوا إليّ بأجمل عروس رأيتها في حياتي ..
فيا مرْحبَا و يا ألف مرْحبَا .
الأتان :
- هوّنْ .. هوّنْ على نفسك .. ولا تستبق الأحداث .. و عليكَ أنْ تعلمْ أنّ حوافري الخلفيّة ستخلّطُ وجهك تماماً
إذا حاولتَ أو فكّرتَ في الاقتراب منّي .
الحمار متفهّماً تمنّع الإناث :
- قلْ لي بالله عليكِ .. هل أنتِ سوداء مخطّطة بالأبيض ؟ أمْ أنّكِ بيضاء مخطّطة بالأسود ؟
الأتان :
- سبحان من يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل .. قلْ لي قبل كلّ شيء .. هلْ توجد في هذا الحديقة سباع
أو فهود و نمور؟
الحمار :
- نعمْ .. نعمْ .. أسمع أصواتها من حين إلى آخر ولكن لا تخافي يا عزيزتي فهي رهينة أقفاصٍ محكمة الإغلاق .
الأتان :
- الآن فقط فهمتُ لماذا يغدقون عليكَ بأطايبِ الكلإ و الحشيش ؟
ولو كنتُ مكانك لتظاهرتُ بالمرض و الهزال .. لأنه كلّما زاد وزنكْ و انتفختْ أوداجكْ إلاّ واقتربتْ ساعتكْ .
الحمار غير عابئٍ بكلامها :
- اليوم علفٌ و حشيشْ .. وغذاً شهيقٌ و نهيقْ .. صدّقيني يا ملاكي الآن لا تنقصني سوى الخلفة و العيال .
الأتان متهكّمة :
فهمتُ الآن لماذا أذناك طويلتان ؟ قلْ لي ماهو أصلك ؟ أراكَ أسود اللّون بينما فمكَ أبيض !!!
الحمار مبتسما ً :
هو نفس السؤال كنتُ سألته جدّي عندما كنتُ جحشاً صغيراً .. فأجابني :
الأصل هو الماء والغرض هو جرّ الأثقال وحملها منذ فجر التاريخ ..
أمّا عن بياض الفم فذلك وشمٌ أصيلٌ يرمز إلى صبرنا و تجلّدنا و براءتنا نحن معشر الحمير .
الأتان :
- لستُ أدري لماذا جدّكم الأول لمْ يتّبعْ خطّة جدّي الأوّل ؟؟ ..
وهو الفرار إلى الأعالي و الاختباء في البراري ..
فاللهمّ الوحوش و الضّواري ولا الذلّ و الهوان البشري .
الحمار :
- ربّما جدّي الأوّل كان مجْبولاً على مدّ ظهر العون ..
فصرْنا على أثره تابعين .. من السوط خائفين ..على الظلم صابرين.. لله محتسبين .
في هذه اللحظة مجموعة من الزائرين بدأوا يتوافدون على الحظيرة ليتابع الحمار كلامه قائلا لها :
- انظري .. كأنّي بهؤلاء الزوار قادمون لتهنئتي بانضمامكِ إليّ يا ملاكي .
الأتان :
- ولماذا أحدهم يحمل هراوة و الثاني يحمل حبلاً و الثالث يحمل عصابة العينين ؟؟؟
الحمار وقد اختلطتْ عليه الأوراق :
- أيْ نعمْ .. ربّما أرسلهم البيطري ليجرّوا أحدنا إلى العيادة من أجل الفحوصات .
وبالفعل دخل الثلاثة فوضعوا الحبل في عنق الحمار .. و العصابة على عينيه ..وأخدوه كرْهاً والمسكين لا يدري
أنّ مصلخة الحديقة بانتظاره و أنّ كلّ ما أكله من علف و برسيم سيوزّع لحماً طريّا على السباع و النمور الجائعة .
أمّا الأتان فقد ودّعته بحسرة قائلة :
- رحماك يا هذا .. عشتَ حماراً و تموت حماراً .. وهذا ما جناه عليك جدّك الأول .
بقلم : ذ تاج نورالدين .
-
تاج .. نورالدين .محام سابق- دراسات في الفلسفة والأدب - متفرغ الآن في التأليف والكتابة .- محنك في التحليل النفسي- متمرس في التحليل السياسي- عصامي حتى النخاع- من مؤلفاته :( ترى من هذا الحكيم ؟ )- ( من وحي القوافي ) في ستة أبواب وهو تحت الطبع .- ( علم ...