في صَيفِ عامٍ قَد مَضى كان مَوعِد لِقائي يتَجدّد بأكبر المُدن الفِلَسطينّية الأقرَب إلى قَلبي و هي مَدينة نابلُس ، وفي لَيلةِ قُبَيل يَوم اللّقاء المُنتظَر كُنتُ بِلَهفَتي أُشابِهُ طالِبةً تَستَعِدُّ لِلذّهابَ إلى رِحلةٍ قَد نَظمّتها مَدرستها ، فَلا تَستطيع النّوم وتَتشوّق لإشراقة شمسٍ لِيَبدأ صَباحها بِكُلّ حَماسٍ وشغَفٍ لَها ، فَتوضِّبُ نَفسها وتضَعُ حاجِيّاتها في حَقيبتها .
تِلك اللّهفة ذاتَها تَكون بِداخلي في كُلّ مرّةٍ أذهَب فيها إلى مَدينة نابلُس .
التاسِعة صَباحاً ،
ساعَة الإنطِلاق قَد حانَت بِرِفقَة أهلي ، الطّريق طَويلٌ جداً لكنّني أقضيهِ في سَماع الموسيقى و النّظر لِطَبيعة فِلَسطين السّاحِرة ، فَعلى يَميني ويَسارِي أشجارٌ كثيرةٌ ومُتنوّعة ، و كُلّ مَنطِقةٍ في فِلَسطين لَها شُعوراً يَختلِفُ عن سابِقَتها ، بِشوارِعها ومَساكِنها ولَهجة قاطِنيها وإختلافِ عاداتهم وتَقاليدهم ، في صناعاتهم ومَنتوجاتهم التي يَشتَهرون بِها .
لَكِن ما تَتوافَق عَليهِ فِلَسطين بأكملِها هي الحَواجِزَ الإسرائِيليّة ، حَيثُ أنّها واحدة في كُلّ مَكان و لا تَختِلفُ بِشيء ، و هَذا أكثَر ما يُصيبني بالإستِفزاز حينما أرى الحَواجِز بِالجُنود وأبراجِ المُراقَبة وعَلمَهُم المُعلّق ولوحاتُ المناطقِ الإشاريّة ويافِطاتِ المّحلاتِ التي كُتِبَت باللُّغة العِبرية على مدّ الطريق ، وإضافة إلى ذلِك تَرى مُستعمَراتهُم التي تَتشابهُ في أشكالِها كأنّها مُستنسَخة ومَصفوفة بِجانب بَعضِها البَعض .
لازِلتُ أحسبُ الوَقتَ بالسّاعات بالدّقائِق والثّواني لِكَي أصِلَ إلى مَدينة نابلُس التي تَبعُد عَن مَدينة بَيتَ لَحم ما يُقارب الأربعِ ساعات أي ما يُعادِل 192 كم .
" مَدينة نابلُس تُرحّب بِكُم "
عِندما أرى تِلكَ اللّافِتة يَخفِقُ قَلبي كَمَن يُقابِل حَبيبهُ بَعد طولِ غِياب ، أُغمِض عَيناي وأخذُ نَفساً عَميقاً لِيَسري هَواءها بِداخِلي حَيثُ مَقامها بِالحَشا .
مَدينةٌ أُحِبُّها و كُلّ ما فِيها يُعشَق ، ونابُلسَ عِشقي بِشوارِعها وأزِقّتها وبِناءها القَديم وأسواقها وطَبيعتها في صَباحِها ومَساءِها .
إنّ أوّل المحطّات فِيها ما يُسمّى وَسط البَلَد " دوّار الشُّهداء " ومِنهُ إلى السّوق الذي تأخُذكَ مَداخِله الرّئيسية إلى البَلدة القَديمة ، حَيثُ أنّكَ إذا عَبرتَ مِن مَدخَلٍ سَتَجِد نَفسكَ في مَتاهَةٍ وتَنتَهي مِن تِجوالِكَ لِتَخرُجَ مِن مَدخلٍ أخَر لَكِن يُعيدُكَ إلى ذات نُقطَة البِداية وهو دوّار الشُّهداء .
فِي نابُلسَ حاراتٌ مُعتّقةٌ ترَى جَمال البِناء والطّابع المِعماري بأحجارٍ ومَعالِم تاريخيّة في البَلدة القَديمة ، إذ أنّها تَنقَسِم إلى ستّة حاراتٍ رَئيسيّةٍ وأشهَرُها حارةُ الياسمينَه " تاجُ المَدينة " كما يُسمّيها قاطِنيها ، و فِيها الكَثير مِن أشجار الياسَمين حَيثُ رائِحَتهُ الفوّاحة ، وفي البَلدة القَديمة أيضاً خاناتٌ وأحواشٌ وبسَاتين ، وتَتميّز بِالحمّامات والمَساجد الكَثيرة لِذلك مِن مُسمّياتها " مَدينة المَساجِد " .
ابنة فِلَسطين وحَفيدة بِلاد الشّام ، فَمَن يَنظُر لِصورهما لا يَجِد مُقارنة بَينَهما بَل تَشابهٌ كبير في تَفاصيل بِنائهما وتَلقى حَضارةً مِعماريّةً واحِدة ، ومَن لا يَعرف أنَّ مَدينة نابلُس مِن أكثَر المُدن إرتباطاً بسوريّا و بَينهُما علاقةٌ قويةٌ مُنذ القِدَم في التّجارةِ والنَّسَب ، حَيثُ يوجَد فِيها عائلاتٌ سوريةٌ مِثل طوقان والنّمر ونَجد . لِذلِكَ وَصفها بَعض الرّحالة بِدمَشق الصُغرى .
نابُلسَ الحُب والجَمال ، نابُلسَ الحَضارة والتّاريخ ، عاصِمَة جَبل النّار ، مَدينة العِلم والثّقافة لِذلِكَ لُقِّبَت بـ " عشّ العُلماء " حَيثُ ظَهر مِنها كثير مِن العُلماء والمُفكّرين والأُدباء والشُّعراء ، و أهمّهم إبراهيم طوقان وشَقيقَته فَدوى .
غيرَ أنَّ أُناسها كجَمالها بِطبعهم و حُسن تعَاملهُم ، أهل الكَرم والجٍود ، سنداً تتكئ عَليهِ في المِحَن .
يَحمِلُ لِساني نُطقَ لَهجَتهم التي تُشبِهُ الشّامِيّة كثيراً ، ولَهُم مُصطلحاتٌ يَنفَرِدونَ بِها وَحدَهُم تَختلف عن لَهجة مُدن فِلَسطين كُلِّها وهَذِه حِكايةٌ أُخرى ، ومِن أكثَر الجُمل المُتداوِلة حَيثُ أنّها لَغوةٌ دائِمةٌ على لِسان أهل المَدينة ويَستَحيل أن لا تَسمعها طوال فَترة تَواجدكَ فيها : " يكْسِر همَّك " وهيَ مِن الأدعِية المُحبَّبة بِمَعنى أن يُخفّف ويُبعد الله عنكَ الهَم ، و " يا دلّي " بِمَعنى يا وَيْلي ، غَير الكلِمات التي مِن كثرة سَماعها تَخرُج مِنكَ تِلقائِيّاً مِثل " أبُزبوطْش " بِمَعنى لا يَنفَع وغَيرها الكثير .
وكيفَ لكَ أن تَكون في نابُلسَ و أن لا تَتذوّق الحِلويات النابُلسيّة وأخصُّ بِذلِك العَم باسِل الشَّنتير " أبو حَمدي " ، أشهَر بائِع وصاحِب أقدَم مَحلٍ في صُنع أشهَى كُنافة نابُلسيّة ، فكُل مَن يَتوافَد إلى المَدينة يَقصِد "حلويات الأقصى " الذي يَقع في البَلدة القَديمة ; لِسيطِهِ وتَداول اسمهِ عِند ذِكر الكُنافة النابُلسيّة ، ومِن الحِلويات أيضاً التي يَجِب تَجرِبتها هيَ الكُلّاج والتَمريّة والزّلابية النابُلسيّة ، وهُناكَ الحلقوم أو الرّاحَة .
غيرَ أنّ المَدينة تَشتهر بِصناعة الصّابون مُنذ القِدَم ، بالإضافة إلى بَعض المنتجات الزّراعية مِثل الزّعتر والجّبن النابُلسي .
وأكثَر ما أُحِبُّهُ في نابُلسَ هيَ لَياليها المُقمِرَة و أضواء شَوارِعها الكَثيرة كأنّها تُشابِهُ باريسَ أو تِلكَ الدّول التي تَرى بِها الأضواء تَملئُ المَدينة . وأكثر وقتٍ لا أرغَبُ بِقُدومهِ هو وَقتُ العَودة ، فَيعزَّ على قَلبي وَداعها على أمل لِقاءها مرّةً أُخرى .
لَكِن رِحلَتي إليها لَم تَكُن لنَهارٍ واحِد ، فقد تَجزّأ لِعدّة أيامٍ تَجاوزَت الأسبوع ، فَهذِه المَدينة لا تَكفيها ساعاتٌ أو يَومٌ لِتتأمّل إبداع ما سَتُشاهِدهُ فيها وسَرد رِحلتكَ إلى نابُلسَ قَلبَ فِلَسطين .
"رُوَند عَمريطي"
-
Roand Amritiأنا مَن قَلبُها بِالهَوى مُعلّقٌ بَين الحُبّ واللّاحُبْ..✒️