الشهداء - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الشهداء

قصة قصيرة

  نشر في 19 غشت 2021 .

[1]

نزل من الباص وسار الخطوات مسرعا إلى محطة قطار الأنفاق (مترو Metro),عبر بين حوانيت البيع والمتاجر والعربات التي تصنع سوقا قرب موقف السيارت ومحطة القطار. وبجوار فراش الإسكافي رأى الباب مغلقا فتذكر أن مدخل المحطة قد تغير منذ عدة أعوام وصارت المداخل على الجانبين,أكمل سيره يسارا إلى محطة السيارات حتى وصل إلى المدخل مقاوما أن ينجذب لأي من روائح أو مناظر عربات الطعام حتى لا يضيع مزيدا من الوقت وقد نظر إلى ساعته ليجدها على التاسعة بالضبط,مشى لا يلتفت خاصة إلى عربة الفول وعربة السجق.

دلف يمينا إلى المدخل ووقف في صف التذاكر متذمرا من عوائق الوصول مبكرا,ما بين بائع التذاكر الذي يعمل في أريحية تامة,ومخترقى الصفوف,ومن يدفعون لغيرهم حتى يقطع لهم التذاكر عوضا عنهم على سبيل الشهامة (وقد تجده يقطع لثمانية غيره).

أخيرا مرت دقائق العذاب ليعبر ماكينة التذاكر شاعرا بالرضا أنه لم يصطدم بفتاة في هذا الزحام ولم تعلق معه آلة التذاكر اللعينة حسب ما يراها دوما,مر من الجمع الداخل والخارج آملا ألا يصطدم بأحد إلى أن يصل إلى باب القطار حتى لا يفوته القطار ويتأخر على عمله. على رصيف المحطة المزدوج وسط زحام هائل من الناس والقطار قادم على الخط الأيمن, بينما القطار المتوقف على الخط الأيسر يبدوا أنه يهم بالإغلاق ليرحل بعد وصول القطار الآخر.

شابان تم تفريقهما عن بعض بعد إلتحام بينهما غالبا لم يكن سوى بضع لكمات في الصدر من الطرفين إستعدادا لبدء مشاجرة ساخنة,تم سحب أحدهم للعربة وشد الآخر إلى عربة ثانية ولكنه أصر على أن يركب نفس العربة مع غريمه. ركب محمد العربة وهي الأولى في خط العربات المكونة للقطار,وما أن توقف القطار المقابل حتى أغلق القطار الراحل أبوابه عدا باب العربة الذي تم إمساكه -مزيدا من الشهامة- ليتم تكديس أكبر عدد ممكن من اللحوم البشرية الحية وضغطها كيفما أتفق مع العدد الهائل الذي ملأ العربة مسبقا ليغلق الباب أخيرا ويسير الوحش المعدني حاملا أطنانا من الكتل البشرية.

كما المعتاد سار القطار بطيئا للغاية ما بين المحطة الأولى والثانية؛المرج الجديدة والمرج القديمة,وفي المرج القديمة تم تعبئته بالمزيد من البشر الذين عبروا أبواب العربة بمعجزة ما.

[2]

بعد تخطي ثلاث محطات أخرى (عزبة النخل - عين شمس - المطرية) كانت عربات القطار قد حُملت حتى أمتلأت عن آخرها ويكاد يفيض البشر منها. استمر التحميل دون أن يفكر أحد من الركاب في النزول هروبا من الموت خنقا في علبة مغلقة من المعدن. فأخذ الركاب بالتزايد خاصة الآتين من مستشفى الكلب في محطة منشية الصدر,والآتين من مستشفى عين شمس في محطة الدمرداش,وأخيرا الآتين من الموقف الرئيسي في محطة غمرة.

دخل القطار النفقي إلى أول نفق في الخط الأول ومرت الثواني المعتادة للعبور إلى المحطة التالية والتي لم تأتي بعد مرور خمس دقائق. لازال القطار يركض دون أن يتوقف أو تخفت سرعته. مرت نصف ساعة قبل أن يبدأ الناس في التململ ومحمد يتسائل عن كيفية صبرهم لكل هذا الوقت. كانت الإضاءة قد أضيئت فور دخولهم القطار,ولكن لم يصلوا إلى وجهتهم في المحطة التالية بعد. وبدأت التساؤلات تتوالى

-هو إيه اللي معطله ده كله

-أنا عارف,هو كل مرة

-وشوية يقولك هذا القطار آخره السرايا ولا آخره المعادي

-ما هو مافالحين إلا في هذا

بدأ بعض الجلوس من رواد محطة رمسيس بالقيام ليقفوا متجاورين مع من سبقوهم إلى الباب منتظرين وصول القطار إلى وجهته حاسبين أن وصوله قد اقترب. ولكن طال وقوفهم حتى بدأ آخرين بالجلوس. ورجع نصفهم جالسين. والنصف الآخر تحول إلى شرائح متفرقة من البشر أمام أبواب العربة الأربعة. وبدأ مساحات تتسع من الفراغ بين الأجساد المزدحمة وقد تراص الجميع ملتصقين إلى جدران العربة وأمام مقاعدها. وبدا الإمتعاض والضيق والغضب جليا على الوجوه. نظر في ساعته فوجدها قد صارت العاشرة والربع. هاله ما رأى وأدرك أن لهم فترة طويلة في القطار. خمن أن السبب هو تأخير القطار بين محطة وأخرى,فتجاوز أو قارب الساعة من التأخير. وقد شغل باله باستقبال مديره له,خاصة وهو المعروف بكثرة الغيابات والتأخيرات والأذونات. لم تستمر المزيد من ردود الأفعال الغاضبة من الناس في العربة. وشعر أنه وحيدا في صمته وحنقه وأخذ ينظر للساعة كل خمسة دقائق ولم يتصور كيف أنها بلغت الحادية عشر والنصف. رغم أنه يتابع دقاتها وهي تمر دقيقة بدقيقة إلا أنه لازال منصدما مما يحدث. ما زاد فزعه أنه أدرك أن القطار ليس معطلا,بل طوال هذا الوقت هو يسير على القضبان من محطة غمرة إلى محطة الشهداء.

-هو إيه اللي معطله ده كله

-علمي علمك يا خويا

-هو فيه سكة للركن والطوارئ بين غمرة والشهداء؟

-هو أصلا مش عطلان,وما وقفش من ساعة مسيبنا غمرة,بس بطئ جدا

-لقد كان سريعا طيلة المحطات لماذا توقف هنا

-هو لم يتوقف

-إذا تباطئ للغاية

محمد: بطئ إيه ياعم,انت مش حاسس بسرعته

-لا سايبك تحس انت كويس

محمد: يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم

-خلي استفتاحك عسل بعيد عننا

محمد: انت عايز تتخانق يعني

-هتقدر تسد معايا

محمد: تحب تشوف

وقام محمد يشتبك مع الرجل لولا أن حال بينهما مجموعة من الشباب ركبوا ومعا,ومن ضمن من يحاولوا التهدئة الشاب الذي تعارك على الرصيف. هدأ محمد وهو يسخر في سره من حاله وحال الشاب الذي سبقه إلى معركة مع الناظر إليهم من بعيد. انشغل بالنظر إليه فحال الرجل نظراته عنهم بعد أن جلس هادئا.

ظل واقفا ونظر إلى ساعته فرأى أنه قد مرت نصف ساعة أخرى. الآن صارا في منتصف الظهيرة والناس لازالت صابرة مع بعض الاحتكاكات بين الشباب,والتململ من الفتيات,والقراءة من بعض الأربعينيين والطلبة في هواتف أو جرائد أو مجلات أو مذكرات أو كتب,وبكاء أطفال.

قابل جمال وقد فهم جمال التسائل في ذهن محمد

-المحطة الجديدة,نحن وجدناها على التصميم القديم

-تقصد أن هناك شيء خاطئ

-نعم

-ماذا يكون؟

-لا أعلم ولكن ربما ركبنا قطارا له وجهه أخرى

سمع الناس حديثهم فأتفقوا ومعهم وتأكد الأمر لهم. أنهم تقريبا ليسوا في نفس القطار الذي يذهب إلى الشهداء,رغم أن المحطة التالية مكتوبة الشهداء في اللوحة الإعلانية المضيئة التي تعلن عن المحطات القادمة. كذلك فاللمضة الحمراء مضيئة وثابتة على عنوان محطة الشهداء ضمن اللافتة الإلكترونية التي تحمل جميع عناوين محطات الخط الأول. وتومض بالأحمر بدلا من الأصفر على المحطات التي مرت عليها. جميع المحطات بعد الشهداء غير مضاءة بأي لون,لا بالأحمر ولا بالأصفر,مما يعني أن آخر محطة هي الشهداء.

[3]

الساعة الآن الواحدة ظهرا وتكاد كأنها تكون بعد منتصف الليل,ومظاهر متنوعة من الذعر والتخبط.

الناس المذعورة صارت تصرخ وتنادي وتستنجد.

ثم تتطور الأمور أكثر,أحدهم بدأ يحاول أن يفتح الباب المؤدي إلى العربة التالية,وعلى الجهة الأخرى من أول العربة حاول شخص آخر أن يفتح الباب المؤدي إلى قمرة السائق.

وتكاثرت الأدوات لذلك,من المفاتيح إلى الأدوات مع بائع الحاجيات,مرورا بأدوات نسائية خرجت من الحقائب,وصولا إلى قطعة حديدية ظهرت في يد أحدهم.

قاموا بسحب زر الطوارئ الذي يوقف العربة لكنها لم تتوقف,وتحدثوا من خلال جهاز الاتصال المخصص للطوارئ لكن لم يستجب أحد.

محاولات لفتح الأبواب ولم ينجحوا,ثم أخذ الناس يتخبطون ببعضهم يمينا ويسارا,وأعلى وأسفل.

استطاع رجل قوي بمساعدة شخص ما أن يكسرا حاوية أنبوب الإطفاء ويخرجاها ليحاولا كسر باب مقدمة العربة,ثم محاولين كسر زجاج أي باب. تم فتح الباب في أول العربة وكسر النافذة الزجاجية لباب آخر,وتم كسر بعض النوافذ للقطار وفتح نوافذ أخرى. ولكن لم يستطيعوا اختراق الباب إلى العربة الأخرى أو الباب إلى قمرة القيادة. والقطار لم يتوقف,وصارت الخيارات إما أن يقفزوا أو أن يستمروا راكبين مع القطار في مسيرته المظلمة.

###

واستمر القطار يجري في النفق المظلم إلى الأبد,حتى بعد موتهم جميعا لم يتوقف.

###

ومن القبور

.

.

.

.

.

.

.

في القطار



  • رايفين فرجاني
    ناقد أدبي وسينمائي نشر عدد من المقالات على الشبكة,وكاتب روائي يعمل على عدد من الروايات والقصص القصيرة التي لم تنشر بعد.
   نشر في 19 غشت 2021 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا