الخوف من أن نتقدم في السن ،أمرًا قد يبدو طبيعيًا عند أغلب البشر ،ف دومًا ما يخشى الإنسان أن يفقد أيام طفولته وشبابه ،نظرًا لما يشعر به في تلك الفترة من مرح مميز وإنطلاق ،لتلك الأيام بريق خاص ولمعان يُضفى على شتى الأشياء من حولنا، ومسئولياتنا في ذلك السن بسيطة لا تتعدى حضور المدرسة أو الجامعة ،ولكن ماذا إن غفوت و أنت في الخامسة عشر من عمرك لتستيقظ فجأة وتجد أنك قد أصبحت في الخامسة والعشرين؟! ،لقد تضخمت أنت ومسئولياتك معًا في آن واحد ،صدقني هذا ليس جنونًا أو أي من أنواع الهذيان و لكنه حدث بالفعل!
كنت أبلغ من العمر خمسة عشر عامًا إلا ساعات قليلة ،وكي أصدق القول كنت أنتظر بلوغي هذا السن على أحر من الجمر ،وحين يحترق المرء منا لشيء نجد أن الإنتظار يطول أكثر من المعتاد ،شعرت في تلك الساعات بأن الدقائق والثواني طوال عجاف لا يمران و كأن عقارب الساعة كلها قد توقفت فجأة ،دخلت إلى غرفتي ووقفت أمام النافذة بينما تنظر عيناي تجاه الساعة المُعلقة فوق مكتبي ،بدأت بالعد التنازلي للثواني العشر الأخيرة قبل أن يحل منتصف الليل ويأتي يومي المنتظر ،يوم مولدي.
سمعت صوتًا غريبًا ،وكأن حجر صغير ارطدم بزجاج نافذتي ،لم أبالي في البداية ولكنه تكرر مع ثلاث عدات متتالية ،اوقفت العد ونظرت خلفي لأجد بومة ضخمة تقف أمامي ،عيناها صفرواتان كبيرتان ،كالسيف في حدته ،حدقت إليّ في مشهد مخيف حتى أنه قد دق جرس الساعة معلنة الثانية عشر بعد منتصف الليل ،في تلك اللحظات اغلقت عيناي وتمنيت أمنية واحدة بقوة في داخلي وهي أنه حين يأتي الصباح وأكون قد أتممت الخامسة عشر ،فلا ينظر الناس لي أبدًا على أنني طفلة ولا يتعاملوا معي على هذا النحو مرة أخرى ،لقد سئمت تلك المعاملة التي يحظى بها الأطفال ،وأحتاج إلى بعض الخصوصية فلا يقتحم أحدًا غرفتي دون إستئذان، المساحة الشخصية ،حرية الإختيار وكذلك الإستقلال.
مرت هذه اللحظات سريعًا وفتحت عيناي لأجد البومة قد اختفت وكأنني كنت هائمة على سحابة صغيرة و فجأة سقطت على أرض الواقع ،شككت بأن هذه البومة كانت مجرد تخيلات ،وذهبت نحو سريري لأحظى بقسطًا من النوم قبل أن أصحو باكرًا للمدرسة وكذلك للإحتفال بتلك المناسبة، ف كم من سنوات انتظرت حتى يأتي هذا اليوم وذلك الرقم المميز.
لكن مع الأسف الشديد هذا الصباح لم يأتي أبدًا ،لم أفارق الحياة بعد ولم يحدث لي مكروه قط ،فقط استيقظت كعادتي ونظرت في المرآة لكن وجدتني شخصًا أخر، أصبحت في الخامسة والعشرين من عمري !
ما هذا الذي يحدث؟ من هذه التي تقف أمامي؟ لابد أن يكون ذلك حلمًا ،لا على الأرجح أنه كابوسًا وأنا مازلت نائمة لم أستيقظ بعد ،هرعت نحو سريري مرة أخرى محاولة إقناع نفسي بأنني نائمة وسحبت الغطاء على وجهي حتى سمعت جرس الهاتف الموجود بجواري ،بحذر شديد أمسكت بالسماعة ورفعتها نحو أذني ،وكانت الصدمة ،أحدهم يصرخ ويقول "أين أنتِ لقد تأخرتِ عن الحضور للعمل !"
انهالت التساؤلات على رأسي كمطرقة سقطت فوقي من مكان بعيد ،كيف للمرء أن ينام وهو سن ما بعينه سواء كبير كان أو صغير ويستيقظ فجأة ليجد نفس في سن أخر بل وشخص أخر؟! هل أصبحت المستحيلات تُحقق الآن؟ كنت أنتظر يوم ميلادي الخامس عشر منذ سنوات عدة وظللت أحلم و أخطط له على النحو الذي يُرضيني ،لماذا أنا هنا إذًا ؟ لقد صرت شابة مستقلة عليها أن تذهب للعمل الآن!
فكرت بأن أذهب لأُحدث أبي وأمي عما حدث ،خرجت من غرفتي ولم أجدهما في الخارج كما اعتدت ،اتصلت بهما و وجدتهما قد انتقلا للعيش في مكان أخر ،كيف لهما أن يتركاني وحدي في هذا المنزل؟ ،على كل حال وجدتهما يُهنأني بعيد مولدي الخامس والعشرين ،قلت لهما كيف هذا ،أعني كيف حدث لقد كنت بالرابعة عشر في الأمس ،مما يعني أنني الآن في الخامسة عشر ليس الخامسة والعشرين ، فظناني أحاول أن أهرب من حقيقة التقدم في العمر،من مسئولياتي ،عملي وربما حياتي بأسرها.
ارتديت ملابس ملائمة وذهبت نحو المدرسة ،لأبد أن يكون لدى أحدهم إجابة ،اسرعت نحو فصلي وأثناء قيامي بذلك اصتدمت بمعلمتي ،لم تعرفني هي الأخرى قالت لي" لابد أنكِ المعلمة الجديدة ، هؤلاء الطلاب مسئوليتك من الآن " ثم ذهبت سريعًا.
أردت أن أتحدث إلى أعز أصدقائي ،دخلت إلى فصلي و ناديته بعلو صوتي "چيمي" ، بعدها بثواني قليلة ادركت أن الأنظار كلها تتجه نحوي وقد رُسمت علامات الدهشة على أوجه جميع الطلاب ف كيف لإمرأة شابة أن تُنادي أحد الطلاب هكذا ،كنت أتصرف ك "لين" المراهقة التي أتمت عامها الخامس عشر على التو ، لم انتبه لشيء و سرعان ما طلبت منه التحدث لدقيقتان فقط ،في الحقيقة لم يوافق و ذهب ليستمتع بيومه مع بقية زملائنا.
اسرعت نحو سيارتي ،لا يُعقل كل ما يحدث لي و المُفترض أن اليوم كان سيكون أفضل أيام حياتي على الإطلاق ، بدأت دموعي تنهمر و لم أشعر بنفسي إلا سيارتي تصتدم بشجرة ضخمة.
فقدت الوعي لحظات من هول الفزع ،وعندما فتحت عيناي وجدت تلك البومة مرة أخرى تقف فوق الزجاج الأمامي للسيارة و تنظر لي النظرات نفسها التي رأيتها أمس في غرفتي.
حاولت أن أفتح باب السيارة لكنني فشلت ،فثمة شيء ما كان يحول بين الباب والشجرة فلم يُفتح ،حقًا هذا ما كان ينقصني في ذلك اليوم الشنيع.
و فجأة تحولت البومة إلى امرأة ، فتحت باب المقعد الثاني و جلست معي ، لم أصدق ما رأته عيناي ، و بدون مقدمات قالت لي " كانت تلك أمنيتك و أنا قد نفذتها..عذرًا هل نسيت أن ألقي التحية ؟ إذًا مرحبًا ، أنا سيليت جنية حفلات أعياد الميلاد ، كل عام و أنتٍ بخير عزيزتي".
تركت السيارة و هرعت نحو المكان الذي من المفترض أنني أعمل فيه ، وجدتني أعمل في شركة للإستثمارات العقارية ، يبدو هذا جيدًا ، لكن قبل أن أدرك كم الأوراق التي رُصت فوق بعضها البعض لتبني برجًا شاهق الطول فوق مكتبي و علي أن أُنهيهم كلهم في ساعات محددة.
اتخذت قرارًا أنه مهما يحدث معي اليوم ، سيكون هو أفضل أيامي على الإطلاق ، ظللت أعمل طيلة النهار وعندما أنهيت عملي و ذهب لأُبلغ مديري في العمل بذلك ،لم يشكرني قط !
أهكذا يُعامل البالغين بعضهم؟ ما هذه القسوة؟ حقيقة منذ بداية اليوم و أنا لم أجد سوى الجفاء والضغط من كل الإتجاهات ، وصلت منزلي ووجدت ورقة على الباب بها عدة فواتير ، يجب أن تُدفع و إلا انقطعت الخدمات.
كم أتمني أن ينتهي كل هذا فجأة كما بدأ..ظللت أبكي حتى دق جرس الباب ،نعم ،إنها هي تلك البومة أقصد الجنية لكن في زي عاملة توصيل البيتزا ،تمسك في يدها علبة كبيرة قائلة ،ظننت تحتاجين لصديقة الآن ،ماذا بكِ؟ ألم تعيشين ما تمنيتيه؟ ألم تتمني أن يُعاملك من حولك على أنكِ ناضجة وأن يكفوا عن معاملتك كطفلة؟ ألم تتمني الإستقلالية وحرية الإختيار؟ عزيزتي..أنتِ تعيشين ما تمنيتيه بالفعل".
لكن هذا ليس ما تمنيته حقًا ! لقد فوت على نفسي أفضل سنوات عمري، تمنيت أشياء لم يكن عليّ أن أتمناها ، فقدت أفضل أصدقائي على الإطلاق ولا أستطيع أن عود بالزمن إلى الوراء كي أقول لهم إنني بالفعل افتقدهم ،لقد اجتزت أفضل مراحلي العمرية دون أن أدري أو أستمتع، لم أكن أعلم أننا عندما نتقدم في العمر سنصبح أسرى أنفسنا وقرارتنا التي كنا أحرارًا في إختيارها منذ البداية ،كذلك أسرى لطرق قد كبلتنا وصفدت أقدامنا ف بقينا فيها ولم نستطع الهروب منها..لم أكن على دراية بكل تلك التعقيدات والضغوطات الكثيرة التي يتعين علينا مواجهتها بإستمرار.
حل منتصف الليل ودقت الساعة جرسها..اغلقت عيناي وتمنيت مرة أخرى بقوة بأن تعود الأمور إلى طبيعتها مرة أخرى، وبالفعل استيقظت وأنا في الخامسة عشر ،لا أدري أكان هذا حلمًا أم أنها حقيقة قد عشتها لساعات عدة، لكنني عاهدت نفسي بألا أتمنى ما لا أستطيع مواجهته مرة أخرى ،ووعدتني كذلك بألا أضيع أحلامي وأمنياتي على أشياء لا تستحق.
هذا وقت الإستمتاع ، فإن كنت ممن مازلت الفرص قائمة لديهم ،فلا تُهدرها ،ولا تحاول أن تكبر أبدًا.
-
ريم ياسرهنا ستجد الحقيقة دون تزيف أو رتوش. An old soul who missed her way to ancient times & stucked in our life