العربي وشني.
يلقي كتاب "إسلام السوق" لمؤلفه السويسري باتريك هايني الصادر عن دار مدارات للأبحاث والنشر، الضوء على تحولات نوعية حدثت في مسيرة التدين في العقود الأخيرة أتمرت لنا مشهدا دينيا جديدا مسكون بهاجس النجاح الفردي وبناء الذات والسعي للثروة والنجاح الدنيوي، فالكتاب يرصد لنا أهم التغيرات والتأثيرات التي طالت أنماط و أشكال التدين وساهمت في تنظيم الحقل الديني حول قيم السوق القائمة أصلا على الفر دانية والنزعة الاستهلاكية الشئ الذي أدى إلى ظهور مراجعات كبرى لمجموعة من المفاهيم الحاكمة التي كانت إلى الأمس القريب تشكل جوهر التدين عند أبناء الحركة الإسلامية وفيما يلي بسط لأهم هذه المراجعات .
مراجعة الصورة التقليدية للإسلام السياسي :
مند بداية الكتاب يشخص باتريك هايني تكاثر الناقمين من داخل الحركة الإسلامية الرافضون لمبادئ الانضباط الصارمة التي تحكم العلاقات التنظيمية داخلها، ويعارضون لهجة الحزم لدى قادتها، كل ذلك أدى إلى بروز تيار تصحيحي من داخل التنظيمات الإخوانية يسوق لصورة المسلم الفعال والمنتج، الذي ينشر التدين النشيط كما يحلم به أنصار إسلام السوق ، وهم بذلك يشقون طريقهم نحو التصالح مع واقع الاستهلاك الجماهيري، بالانفتاح على العالم مع نزع القداسة عن التنظيم والتخلي عن الشعارات الكبرى التي تتمحور حول "إقامة الخلافة على منهاج النبوة "، مما سيجعل المضامين الدينية تختفي أو يصيبها نوع من التخفُف والمراجعة ، وتنبثق معان أكثر نسبية للقيم وكل ذلك طبعا لحساب إرضاء دوق الجماهير.
مراجعة الصورة التقليدية للحجاب:
إن منطق السوق حوَّل فلسفة الزي الإسلامي من لباس يعكس التواضع والبساطة والحشمة ويخفي بدرجة كبيرة الفوارق الاجتماعية، إلى رؤية استهلاكية تدفع بنساء المسلمين اللاتي يرتدين الحجاب إلى السعي لحجاب الموضة، الذي يحمل شعار بيوت الأزياء العالمية المستوردة من باريس ولندن، ومن هنا سيبدأ الحجاب بالدخول في فضاء العولمة وتلبية طلبات السوق، فالنظام الرأسمالي قوي جدا بحيث يستطيع نمذجة المؤسسات الدينية والأخلاقيات والجماليات الإسلامية في عالم الاستهلاك بما يشكل في الحقيقة تهديدا لخلق العفة والحشمة .
مراجعة الصورة التقليدية للجهاد:
إسلام السوق حسب المؤلف ليس حركة مؤسسة على حزب أو تنظيم ولا تيارا أيديولوجيا كالسلفية أو سياسيا كالإسلام الحركي ولا يمثل إسلام السوق مدرسة في الفكر الديني، إسلام السوق في الواقع حالة أو توجه قادر على جعل المفاهيم الصلبة مفاهيم رخوة لا نواة لها، فمفهوم الجهاد مثلا لم يعد يعادل القتال وحده فقد تم تفريغه من مضامينه القديمة، واقتلع من فضاء الفقه الإسلامي وأصبحنا اليوم نسمع عن أنواع عدة من الجهاد: كالجهاد المدني وجهاد النهضة والجهاد الإلكتروني وجهاد القلم وجهاد التنمية وجهاد النفس وبناء الذات....، وكلها أنواع تتماشى اليوم مع فكرة السوق وفلسفته التي تسوق لصورة المسلم الفعال والمنتج والإيجابي وتحذر من السلبية والكسل والخمول وتحارب فكر التطرف والإرهاب.
مراجعة الصورة التقليدية للأنشودة الإسلامية :
في بداية السبعينات كان النشيد الإسلامي ذو طابع ثوري، تغلب عليه الأناشيد الحماسية والجهادية والأشعار النضالية التي تتمحور حول انتقاد الدولة، مع رفض الاستخدام للأدوات الموسيقية باعتبارها مخالفة للشرع، لكن المحرمات المتعلقة بالنشيد ستنكسر أمام صخرة العولمة وحركية المجتمع ونبض ودوق الجماهير، فأمام هذه الضغوطات والتحولات تمت مراجعة مجموعة من القناعات والمفاهيم الصلبة المتعلقة بالموسيقى من حيث المضمون والأهداف والوسائل ليدخل بذلك النشيد الإسلامي بوابة العالمية، فنشيد المرحلة ينتمي إلى إيقاعات العالم وأصبح هو الآخر يتحدث عن الحب والسعادة والفرح والسلام ويشارك في المهرجانات المختلفة باسم الأغنية الحلال العابرة للقارات والمنفتحة على كل الأدوات الموسيقية الحديثة والمتحررة من التوجهات النضالية، فالجماهير تريد أشياء ترفيهية وأكثر تفاؤلية.
مراجعة الصورة التقليدية لخطاب الدعوة:
بدل باتريك هايني جهدا كبيرا لتشخيص التحولات التي شهدها الخطاب الدعوي التقليدي، الذي يرتكز على فكرة التخويف والترهيب عبر استحضار العقاب الإلهي والموت وعذاب القبر وأشراط الساعة والصراط والقيامة والنار...، هذا الخطاب كما هو في المخيال الشعبي ظل يصدر من فقيه ألف الجمهور أن يروه في صورة خطيب فصيح اللسان صاحب عمامة بيضاء ولحية طويلة وجلباب نقي من فوقه سلهام، همه الأول والأخير هو تقريع الناس بالمواعظ من فوق المنابر وتخويفهم من عذاب رب العالمين، هذا الخطاب أنتج لنا تدينا مشوها لم يراعي الواقع المعاصر وحاجيات هذا الجيل، ولما كانت وظيفة السوق تلبية طلبات الجمهور ظهر في الواجهة نوع آخر من الدعاة اصطلح عليه لفظ "الدعاة الجدد"، وهم أصحاب اللحى القصيرة أو الحليقة وأصحاب الملابس العصرية والرياضية، وفوق كل هذا وذاك أصحاب خطاب ناعم يفكر بمنطق أن الإسلام منتوج موجه للمستهلك، فما المانع من تسويقه وبيعه من خلال فعاليته الاجتماعية، وقد فرض "عبد الله جمنستيار" في جنوب آسيا و"عمرو خالد" في العالم العربي نفسيهما في أقل من خمس سنوات باعتبارهما أهم دعاة اللحظة الراهنة آنذاك، عبر التسويق في وسائل الإعلام المختلفة لخطاب جديد يرتكز على مواضيع المحبة والسلام الداخلي والسعادة الفردية في الدنيا أولا قبل الآخرة، إلا أن هذه الموجة لم تعمر طويلا، فسرعان ما ظهر في الساحة الدعوية تيار جديد يتزعمه "طارق سويدان ومحمد أحمد الراشد" يسعى نحو التنمية الذاتية للفرد و يعرض أفكار "ستيفين كوفي " المتشبعة بأدبيات المنجمنت لكن هذه المرة من وجهة نظر إسلامية، فالسوق دائما يعرف تقلبات بحسب العرض والطلب وليس من المستبعد تسويق خطاب جديد مادام أن هناك زبائن .
مراجعة الصورة التقليدية للثروة:
الإسلام يمنع الغنى فكرة وضعها أعداء الإسلام، لذا نجد كتاب إسلام السوق يحاول إزاحة الإدانة الأخلاقية عن مفهوم الربح ويعتبر الثروة وسيلة للسمو الروحي، فالمال ليس نقيصة وأن الثروة يمكن أن تكون فاضلة شريطة أن يكون صاحبها سخيا، فلا مانع أبدا من الجمع بين التقوى والغنى والسعي وراء الرفاهية والقطع مع الذهنية الاستسلامية، فالإسلام يمنع الغنى شعار العاجزين ، صحيح أن الأجيال السابقة كانت تكتفي بالقليل، وكانوا يعتقدون أن المال فتنة وشر كله، لكن قيمة المسلم اليوم في أن يعمل بجهد وان يربح أكثر وأن يكون رجل أعمال ناجح، له تأثير في المجتمع بفعل ثروته فالناس اليوم لا تسمع إلا للأقوياء ولا تمجد إلا أصحاب التجارة والاستثمار والبز نيس .
بعد هذا العرض لأفكار باتريك هايني اختم بالقول بان هذا الكتاب يؤسس لأنماط جديدة من التدين، قد يعتبرها البعض تمرير لثقافة التغريب، وقد يعتبرها البعض الآخر تعبير عن حالة مخاض طبيعية يعرفها المجتمع تبشر بمشهد ديني جديد، ما دام أن التدين سلوك بشري محض يختلف من شخص لآخر بحسب العقول والعواطف والمرجعيات الدينية والثقافية لكل زمان ومكان .
التعليقات
و في جميع الاحول هو سعي كان مدبرا من أجل تمييع الدين و جعله لا قيمة له إلا فرديا.
و مع أننيلم أقرأ الكتاب إلا أنني من خلال الملخص الذي أعطيتموه مشكورين... نجد أن تحول الخطاب الديني في الحركات الاسلامية فرق الناس حيث أحبط بعضهم فيما وجد بعضهم راحته... لكنه في آخر المطاف يبقى بعيدا كل البعد عن أهداف الاسلام الحقة.
مقال فكري جميل و مفيد... شكرا لكم في انتظار مقالاتكم المقبلة.