إيفا - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

إيفا

  نشر في 25 ديسمبر 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

كلّ ما في ذلك المطعم يجعله مميّزا عن غيره من المطاعم التي تعجّ بها منطقة باب البحر... قاعة ذات سقف عال تدور فيه مراوح كهربائية بوتيرة هادئة. إضاءة خافتة. جهاز تلفزيون بالأسود والأبيض مثبّت في أعلى الجدار يكاد يلامس السقف، تتحرّك على شاشته صور صامتة. دورة مياه لافتة النظافة... طاولات وكراس خشبية من الطراز الشرقي القديم. طواقم الصحون والملاعق صقيلة لمّاعة... قائمة الطعام لا تخلو من الخضار المطبوخ على البخار، ومن وجبة "البايلا" الإسبانية المكوّنة من الأرز المطبوخ مع غلال البحر... المطعم لا يقدّم لحم الضان الذي يتهافت عليه أهل تونس... نوادل يخدمون الزبائن بوجوه متجهّمة تُذْهِبُ الشهية... الحرفاء معتادون في أغلبهم على المكان، يحضرون في أوقات منتظمة ويجلسون في ذات الأماكن كما لو أنّ÷ا محجوزة بأسمائهم. أغلب الحرفاء من المسنّين المقيمين في العمارات المجاورة من ذوي الديانة المسيحية... تحسّ وأنت تتأمّلهم كأنّما نسيتهم فرنسا وهي تغادر تونس في عجلة من أمرها، فتُرِكُوا لحالهم يلفّهم التهميش والنسيان. من بين الحرفاء أيضا موظّفون طالت عزوبتهم مثلي، وبعض سيّاح هم أيضا مسنّون تحسّ وأنت تشاهد إقبالهم على وجبة "البايلا" كأنّما جاؤوا إلى مطعم "كركسّون" مرسلين من معارف لهم زاروا المطعم قبلهم...

في مطعم "كركسّون" بشارع قرطاج عرفتها... كانت ملعقة الحساء ترتعش بين أصابعها قبل أن تصل إلى فمها فينقلب أغلب ما فيها ولا تظفر إلاّ بالقليل. تتمتم في ما يشبه الصلاة وهي تأكل، كقط يخرخر... بعد بضعة ملاعق تغيّر طريقة أكلها فتقطّع الخبز فتاتا داخل الصحفة وتتركه يتشرّب مرق الحساء حتى إذا ما استوى تبتلعه بسهولة أكبر دون حاجة إلى مضغه... عندما يأتيها النادل الصنمي بكأس الشاي بعد سحب الصحن والصحفة من على الخوان، تكون هي قد وضعت نظارتها ذات الإطار العاجي الأبيض والمشدودة بخيط أصفر فاقع وأخرجت من سلّة القماش التي بين قدميها صحيفة "لابراس"...

أدفع ما عليّ من حساب وأعجّل بمغادرة المطعم كالهارب وأنا منقبض النفس من شيء غامض لا قدرة لي على تشخيصه بدقّة.

كنت في لاوعيي قد صنّفت مشهد تلك العجوز ضمن ما نشاهده من أفلام ونقرؤه من روايات عن مسنّين يعيشون لوحدهم يلفّهم التجاهل ويشلّهم العجز عن القيام بشؤون المنزل الذي يأويهم، بل بشؤون أجسادهم... وربّما كان ذلك الهروب يريحني من شقاء الغوص في معاناة إنسانية تنضاف لتثقل عليّ معاناتي في غربتي داخل تلك المدينة الموحشة التي ترفضني في اليوم ألف مرّة فتتقاذفني أنهجها وجدرانها صاحيا وسكرانا...

ظلّ مشهد تلك العجوز بالنسبة لي مجرّد مشهد أدبي فيه عمق إنساني، ولكنّني ظللت أتحاشاه هربا من تلك السوداوية التي يغرقني فيها، إلى اليوم الذي كنت واقفا عند مفترق شارعي قرطاج وبورقيبة على رصيف مقهـــى باريس، أتأهّب لعبور الطريق إلى الناحية الأخرى وأنا أتأمّل صلعة ذلك الموسيقي المعروف التي يحيط بها شعر هائج ... كنت بالضبط قد وصلت إلى فكرة أنّ هذا الموسيقي له هيبة قادة الأوركسترات السمفونية العالميين، لمّا أمسكتني تلك العجوز من يدي وابتسمت في وجهي متوسّلة أن أقطع بها الطـــريق... كانت تلك اللمسة في مستوى المعصم صعقة كهرباء نقلت إليّ نبض الحياة الإنسانية بكلّ تناقضاتها: القوّة والضعف، الأسى والفرح، الخوف والشجاعة، اليأس والأمـــل... من يومها، تحوّل مشهد تلك العجوز من مجرّد عمل فنيّ مربك إلى قطعة من حياتي ملازمة لي، ساكنة في تلافيف روحي ومسامّ جلدي... شيء له رائحة ولون وصوت وتفاصيل وملابس وسلالم وقطة تموء في زاوية من البيت... كانت المائتا متر التي توصلنا إلى منعطف نهج النحاس باشا (مختار عطية اليوم) كافية لأقرّر أن أصعد معها سلالم العمارة الهرمة التي تقع عند المنعطف مباشرة...

استأمنتني "إيفا" على كلّ شيء... تناولت ُ مفتاح الشقة وأدرتُه في الباب قبل أن أدفعه فيحدث صريرا هتشكوكيا... كانت العتمة تسيطر على الشقة المغمورة برائحة الرطوبة الخانقة... نطّت قطة بيضاء مرقّطة بالبنّيّ تتحكّك على ساق "إيفا" فدفعتها بعكّازها...ثمّ تهالكت على حشية الكنبة وطلبت منّي إعداد قهوة مشيرة بعكّازها صوب المطبخ... "أمرك يا ستّ الكل" رددت عليها وأنا أتوجّه إلى المطبخ مجيلا بصري في أرجاء الشقة... بوفيه بارتفاع متر ونصف على طول جدار قاعة الجلوس، توزّعت فوقه تحف متنوّعة الأحجام وتراصّت داخله طواقم أكل من البلّور والكريستال والسيراميك الفاخر... طاولة أكل من الخشب الثقيل. قليل من الكتب على رف مثبّت في الجدار عند مدخل غرفة النوم... خيوط الكهرباء المغطّاة بخراء الذباب تتدلّى في كلّ مكان مهدّدة بالاحتراق في كلّ لحظة... ستائر بنّية لونها بالح بفعل الغبار تمنع تسرّب الضوء من الخارج... من الواضح أنّها لا تفتح أبدا...المطبخ صغير جدّا تغلّفه خيوط العنكبوت وبقع سوداء من أثر الرطوبة... مواسير ماء تنزل في أحد زوايا المطبخ ويشقشق داخلها صوت الماء النازل من شقق الطوابق العليا... ومن خلال نافذة المطبخ نصف المفتوحة، لمحت طيف امرأة في الشقة المقابلة. اختفت حال انتباهي لوجودها ولكنّها ما لبثت أن عادت مرفوقة بزوجها. وقفا يتأملانني ببجاحة كأنّما ليرسما صورة وجهي في ذاكرتهما... حدست أنّهما يخافان على العجوز من سارق جاء يكتم أنفاسها...

لمّا عدت إلى الصّالة بفنجانين من القهوة، كانت "إيفا" قد نامت... جلست قبالة الكنبة حيث تمدّدت وظللت أراقب أنفاسها وأنا تائه في تأمّلات سوداوية... ماذا لو ماتت الآن؟ كيف سأتصرّف؟ هل أوقظها؟ هل نامت لأنّها متعبة أم لأنّها مطمئنّة؟ ربّما لم تنم بهذا العمق من زمن، إذ كيف لعجوز وحيدة أن تنام باطمئنان؟ خطـــرت ببالي قصص تروى عن أثرياء ورثوا كلّ ما يملكون من خدمتهم لمسنّين كتبوا لهم أملاكهم... من يدري، ربّما كانت لهذه العجوز مجوهرات... طردت هذه الوساوس كارها نفسي. لمحت ألبوم صور ضخما على المائدة حيث وضعت فنجاني القهوة... تردّدت قليلا قبل أن أفتحه، ولكن لم يكن أمامي من حلّ أفضل منه كي أطرد الوساوس وأشفي فضولي...


  • 8

   نشر في 25 ديسمبر 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا